أربعة وجوه لبنانية: رؤية في الفن والموت

01 فبراير 2019
الراحلة جوسلين صعب (ربيع مغربي/ فرانس بريس)
+ الخط -
لا بد أن شهر يناير/ كانون الثاني هو شهر الموت بامتياز. أربع شخصيات لبنانية فنية بارزة رحلت متعاقبة واحدة تلو الأخرى، لتتوالى الصدمات بين أوساط المجتمع اللبناني الفنية والثقافية والاجتماعية مع بداية العام الجديد. بدءاً من الربع الأول من يناير، رحلت المخرجة السينمائية جوسلين صعب، لتلحق بها الروائية مي منسى، بعد أقل من أسبوعين، ثم ما لبث أن استفاق لبنان على خبر رحيل كل من المخرج السينمائي جورج نصر والممثلة والمخرجة المسرحية المخضرمة سهام ناصر. 
قدم أربعتهم تاريخًا حافلًا بالإنجازات، تاركين وراءهم ثروة فنية لن تمحَى من ذاكرة الثقافة اللبنانية والعربية. امتازت أعمال كل واحد منهم بالجرأة والتفرد، بينما اجتمع في ما بينهم مزيج وطني، تتسم أبعاده بمشاعر الغربة وغياب الآخر في كل شخص من أبناء الشعب اللبناني. هي لقطات تروي حكاية بلد التهمته نيران الحرب الأهلية، وصورة لمستقبل وطن يستحق بناءه ورفعه إلى مستوى الحضور العالمي، تنفيذًا لرؤية فنية متجددة تُسقِط عن لبنان وجهه المهترئ بآخر أكثر نضارة، وتستعيض عن حالة الخلل والدمار البنيوي التي أصابته على كافة الأصعدة، بأشكال ومقومات بديلة من خلال عدساتهم وكتبهم ومسرحهم.
لم يكن الموت سوى شريك غير كافٍ على ما يبدو ليحمل عنهم أبدية الهجر والفراق، إذ ما تزال ملامحهم رهينة أعمالهم، تطل من خلالها نزعات مشوبة بالغربة والصدمة والخوف والعزلة. فعدسة صعب التي جالت في الطرقات تنقل صورًا عن مدينة لم تعد كما كانت تحمل من خلالها "رسالة من بيروت"، تتناول فيها أجواء الخوف والتهجير الداخلي في مدينة لم تعد تتعرف إليها، فما كان منها إلا أن بقيت رهينة سؤال فقدت جوابه بين الأزقة والأبنية المدمرة خلال الحرب الأهلية اللبنانية "1975-1990".
في حين بقيت عدسة جورج نصر مطفأة أمام الأحداث الدموية، لم يستطع مواجهة العنف بالفن حين أحس من جديد بأنه ذاك "الغريب الصغير"، يمنعه أهله وأبناء بلده من إحساس المسؤولية والنضوج، هم أنفسهم لم يكونوا ليمتلكوه في تلك الحقبة، فسعى بنفسه جاهدًا وفي منحى آخر إلى أن يشق طريقًا يقدم فيه يعد العون من خلال خبرته ورؤيته السينمائية لتلاميذه، محاولًا إبعادهم عن أفكار الغربة وحمايتهم من مخاطر سبق أن قد خاضها، بعد تجربة قاسية عاناها حين لم يلق من يرد إليه فضل خبراته ودعم رحلته عبر الشاشة الكبيرة في ذلك الوقت. فحاول جاهدًا تأسيس صندوق لدعم السينما اللبنانية قبل أن يعود إلى مأساته غريبًا مرة أخرى لاجئاً بين عيون تلامذته، فوجد متنفسًا ضئيلًا يخفف عنه قسوة الحياة التي مرّ بها. وهذا ما نراه أيضًا في روايات مي منسى، التي انتعلت الغبار ومشت تبحث هي الأخرى عن معالم مدينة هالكة بغبارها عائمة بالخوف والاغتراب داخل الوطن وخارجه، فلجأت إلى السردية بأجمل تجلياتها تنهل عبر شخوصها الأركيولوجية ذاكرة المكان والزمان، ذاكرة الأشياء والمحسوسات فلم تجد تفسيرًا أفضل من "ساعة رملية" تقطر منها حكايات الغربة ومرارة الاغتراب في رواية لم تكتمل ملامحها قبل أن ترحل.
لم يكن نصر وحده من حاول مواجهة الخذلان وشعور الغربة في وطنه، فصانعة "الجيب السري" التي تعتبر ركيزة مسرحية في الحركة المسرحية اللبنانية، وقدمتها المخرجة المسرحية سهام ناصر للجماهير العربية بعد أن نالت الجائزة الأولى في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي عام 1992، مرّت هي الأخرى بصعوبات جمّة، أثقلت كاهلها، وأغرقتها في تيه الاغتراب. دفعت ناصر خشبة المسرح رغم قلة أعمالها نحو الحداثة والاستقلالية والأبدية، خلقت فيه مكونات فنية وتراكيب عصرية جريئة فتحت من خلالها نافذة لطلابها وتلامذتها، تتشارك وإياهم تصوراتها عن بناء مسرح نخبوي تخرجه من مآزقه ونمطيته، فقدمت له كل ما تملك من أموالها الخاصة، ولكن شح الإمكانات المادية والمعنوية وغياب الدور الفاعل لوزارة الثقافة في تقديم مساعدات ملموسة تدفع بعجلة الإنتاج المسرحي جعلاها تبتعد عن المسرح مدة طويلة من الزمن. فأصبحت غريبة نفسها متدثرة بذكريات خشبتها وبخلاصها المستحيل قبل أن توارى الثرى.
تروي أعمال كل من هذه الشخصيات الراحلة فصولًا عدة، امتازت بمستويات مختلفة من التعبير السينمائي والوثائقي والسردي والمسرحي، لا تتسع مئات المقالات للحديث عنها، وعن محاولاتهم في تعرية ذواتهم وهواجسها في سبيل تأريخ معاناة وطن تلبّس في عروق فنّانين تجمعهم غربة واحدة في وطن واحد.
المساهمون