الخارطة الانتخابيّة التونسيّة: العزف المنفرد

15 اغسطس 2014
انتخابات مفصلية في تاريخ تونس بعد الثورة (أمين لاندلوسي/Getty)
+ الخط -

يعيد المشهد التونسي السياسي تشكيل نفسه استعداداً للانتخابات المقبلة، التي يصفها ساسة تونسيون بأنها ستكون الأهم في تاريخ البلاد، وفاصلة في تحديد مستقبل تونس. وشهدت الأيام القليلة الماضية تحركات سياسية عدة، بغية تحديد الملامح النهائية للقوائم التي ستترشح للانتخابات التشريعية، نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ما يعني أنّ زمن المبادرات والمناورات السياسية انتهى، ليفسح المجال إلى ترجمتها واقعياً في خلاصات واضحة تسمح بفهم نتيجة المخاض السياسي، الذي امتد لأشهر، واتسم بضبابية شديدة نتيجة التكتم الكبير الذي ميّز حركة التحالفات، ومحاولات الاستئثار بمفاجآت اللحظات الأخيرة، وفسح المجال أمام المترددين من الأحزاب لحسم خياراتهم، وغربلة "سوق الانتخابات" من المتطفلين، الذين لا يمثلون وزناً انتخابياً حقيقياً، على الرغم من حضورهم في المشهد العام.

سقوط التحالفات الكبرى

لم يتمكن حلفاء الترويكا (أحزاب النهضة والتكتل والمؤتمر) من المحافظة على تحالفهم السياسي، بالرغم من أنه لم يكن تحالفاً انتخابياً، في العام 2011، لأن الثلاثي لم يدخل إلى الانتخابات بقوائم موحدة، ولكن سرى الاعتقاد طويلاً بأن هذا التحالف يمكن أن يعيش لفترة أطول، غير أنّ خروجه من الحكم عجّل بحلّه، وأكد أنه لم يكن تحالفاً متجانساً فكرياً في العمق، بالرغم من أن لا شيء يدفع إلى الاعتقاد أنه لن يتشكل مجدداً بعد الانتخابات، بل إن بعض التسريبات تؤكد أن احتمالاً شديد الترجيح يمكن أن يقود الى مباركة "النهضة" لأحد المرشحين  للرئاسة، أي الرئيس الحالي، منصف المرزوقي، أو رئيس المجلس الوطني، مصطفى بن جعفر.

وفي الوقت نفسه، شهد "الاتحاد من أجل تونس" أزمة كبيرة، بعد قرار "نداء تونس" الدخول منفرداً إلى الانتخابات، وهو ما اعتبرته مكونات من الاتحاد "طعنة في الظهر". ورغم محاولة القفز فوق هذه الأزمة، والتصريح بأن الاتحاد لا يزال قائماً "سياسياً" وفكرياً، فإنه انتهى انتخابياً، على الأقل بقرار "النداء" الترشح منفرداً.

من جهتها، قررت حركة "النهضة"، هي أيضاً، أن تدخل الاستحقاق التشريعي منفردة، تاركة مجال التحالفات لما بعد الانتخابات، وفاتحة باب التأويل والتنبؤ على مصراعيه، حول إمكانية التحالف مع "النداء"، إلى عودة الترويكا وغيرها من الأفكار القابلة وغير القابلة للتنفيذ. ويبدو أن "النهضة" أصبحت تتلذّذ بلعبة "المراهنات"، التي يطلقها المتابعون على برامجها الانتخابية.

بدوره، أعلن حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" عن الدخول إلى الانتخابات بلا تحالفات حزبية، ولكنه "يبقى منفتحاً على المستقلين الذين يقاسمونه ذات التوجه الفكري". وقال أمينه العام، عماد الدايمي، إن حزبه يرى أن هذه الانتخابات "مصيرية"، وأنه لن يتحالف مع أحزاب المنظومة القديمة، بما فيها "نداء تونس"، وأن الترويكا يمكن أن تتشكل من جديد على قاعدة تقييم التجربة السابقة، وتفادي سلبياتها.

أما "الجبهة الشعبية اليسارية" فقد بقيت متماسكة نسبياً، بعدما قررت الدخول بقوائم مشتركة إلى الانتخابات التشريعية، ولكنها شهدت، منذ أيام، خروج أحد مكوناتها، وهو "حركة الاشتراكيين الاجتماعيين"، الذي يتزعمه أحمد الخصخوصي، للحفاظ على تماسك حركته، بعدما هددت أطراف منها بالاستقالة، وقررت بدورها الدخول بقوائم منفردة.

صراع زعامات وتضخّم حزبي

لم تتوقف حركة الانسحابات، وفشل التحالفات، عند هذا الحد، فقد أعلن الأمين العام لحزب "التحالف الديمقراطي"، محمد الحامدي، عن ترشحه بشكل رسمي للانتخابات الرئاسية، مؤكداً فشل المفاوضات التي قادها الحزب مع ثلة من أحزاب العائلة الديمقراطية الاجتماعية، لتشكيل تحالف انتخابي موحَّد.

وعزا الحامدي فشل المفاوضات مع أحزاب "التكتل" و"الجمهوري" و"العمل" و"حركة الشعب"، إلى ما سمّاه بـ"صراع الزعامات"، وتشبث قيادات الأحزاب المذكورة، وخاصة مصطفى بن جعفر وأحمد نجيب الشابي، بالترشح للرئاسة.

ولا يقتصر فكر "التضخم الحزبي" عند أحزاب بعينها، بل يطال معظم المكونات السياسية في الساحة التونسية، حتى أن ما يُقدَّم على أساس أنّه تحالفات، إنما هو يحدث في الواقع اضطراراً "لصغر حجم" هذه الأحزاب، أو لجِدّتها، أو لضعف إمكانياتها المادية. وذهب القيادي في "النهضة"، عبد اللطيف المكي، إلى اعتبار أن "القانون الانتخابي لا يشجع على التحالفات".

ولذلك فضّلت معظم الأحزاب الكبرى المشاركة منفردة بالانتخابات، في حين بقي أمام بقية الأحزاب أن تتحالف. وأعلن القيادي في حركة "آفاق" الليبرالية، ياسين إبراهيم، عن أن حزبه سيذهب إلى الانتخابات منفرداً، وأن إمكانيات فوزه كبيرة جداً، وكذلك أعلن "تيار المحبة" عن الموقف نفسه، وإن كان مستنداً إلى المفاجأة التي حققها في الانتخابات الماضية.

وفي السياق، تشهد ما يسمى بـ"العائلة الدستورية"، ذات المرجعية الدستورية، (نسبة الى الحزب الاشتراكي الدستوري الذي أسسه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة)، تشتتاً واضحاً؛ فقد دعا رئيس "الحركة الدستورية"، حامد القروي، إلى جمع كل "الدساترة" في قوائم موحدة بهدف الفوز بالانتخابات.

غير أن هذا الهدف يبقى صعب التحقيق، نظراً لوجود عدد من هذه الأحزاب في تحالفات أخرى، على غرار "المبادرة الوطنية الدستورية"، (التي تضم حزب المبادرة بزعامة كمال مرجان)، وأحزاب أخرى، شهدت اندماج أربعة أحزاب إضافية، وهي أحزاب "حركة" و"الاستقلال" و"الخيار الثالث" و"تونس الغد"، في ظل مفاوضات جارية مع أحزاب أخرى لتوسيع التحالف.

من جهة أخرى، أعلنت مكونات تحالف الجبهة الوطنية، الذي يضم "الحركة الوطنية"، وأحزاب "العمل الوطني الديمقراطي"، و"ثوابت"، و"الوفاق"، وناشطين مستقلين عن "الاتحاد الديمقراطي الوحدوي"، ومكونات مدنية، منها "اتحاد الشباب الديمقراطي"، و"حركة الشباب"، ومجموعة "نساء وريادة"، عن تواصل المفاوضات مع مكونات أخرى من أجل توسيع هذا التحالف.

وتتعدد أخبار التحالفات والانشقاقات، إذ يوجد في تونس اليوم نحو 150 حزباً وحركة، وآلاف الجمعيات، التي يُعنى كثير منها بالشأن السياسي والانتخابي، وتبدو مهمة رسم خارطة نهائية واضحة صعبة نسبياً، بالنظر إلى تغيّر المواقف خصوصاً مع اقتراب المواعيد الانتخابية.

غير أنّ الخارطة، في شكلها الحالي، تتميّز بتشظٍ كبير سيقود إلى تقطيعها إلى كانتونات صغيرة، وسيؤدي بالضرورة إلى توزّع كبير لأصوات الناخبين، ولكنه يخدم الأحزاب الكبيرة ذات القاعدة الشعبية الواسعة، بالرغم من تضارب عمليات سبر الآراء حول الحجم الحقيقي لهذه الأحزاب.