الفلّاح الفلسطيني... المقاوم الأول في غربته

28 فبراير 2016
(سيدة من قرية بلعين/ أ.ب)
+ الخط -

السؤال الملحّ في الحالة الفلسطينية، هو: كيف ولماذا فقدت الأرض والزراعة الفلسطينية دورها المعهود تاريخياً، وكيف تحوّلت قوى الفلاحة والزراعة الفلسطينية من الاشتغال بالأرض إلى اللحاق بركب قطاعات أخرى؟

يكاد إفراغ الأرض الفلسطينية من المزارع الفلسطيني يكون المكسب الإسرائيلي الأبرز منذ العام 1967. فإن كانت دولة الاحتلال عملت على مصادرة الأراضي والتضييق على المزارعين وفتح باب العمل لهم داخل "إسرائيل"، فإن سياسات السلطة الفلسطينية كانت، وما زالت، عاجزةً عن دعم ومساندة الفلّاح الفلسطيني وتعزيز صموده.

ليس أدلّ على ذلك من الأرقام والإحصائيات التي تُظهر أن قطاع الزراعة قد حصل على نسب 1-0.7% فقط من الميزانية الفلسطينية منذ العام 2009. إنها دلالة كافية على مدى إهمال هذا القطاع الحيوي والهام.

في البلاد العربية، ملفّ الزراعة هو من الملفّات المهمَلة، بل إن معظم الحكومات العربية تعمل، بقصد أو غير قصد، على إفشال أي كيان زراعي فعّال يعمل ويتحرّك من خارج الأدوات السلطوية المعهودة لحكومات الاستبداد العربي التي ترى في كل رأس مال مستقلّ تهديداً لها وخروجاً على منظومتها المالية، وبالتالي خروجاً على نظامها السياسي.

وهكذا فإن عرى الثورة في البلد المحتل تنتقص عروه تلو العروة، إن تمدّن الفلّاح وهجر أرضه، بل يكاد يكون هجرها هدفاً احتلالياً يبذل له الاحتلال موارد مالية وجهوداً مخابراتية لإخراجه من دائرة الاستقلال المالي عن المحتل وشركائه المفترضين.

الفلّاح مقاوم بطبعه؛ لأنه ميراث الأرض التي لا قيمة لها من دونه. إنه ذخيرة المقاومة والتصدّي للاحتلال، فالأرض خيمته الأولى والأخيرة، وهو مقاوم لأجل ذاته التي تحوّلت عبر الزمن إلى ذات ملتصقة بالأرض لا ترى وطناً لها إلّا من خلال ما تمنحه الأرض من هبات وخيرات.

تاريخياً، نشأت الثورات ضدّ الاستعمار في القرى ومزارع الفلّاحين الفقيرة. وسبب ذلك، ليس فقط لأن الفلّاح هو الأكثر ارتباطاً بالأرض، بل لأنه أوّل الخاسرين من وجود الاستعمار، وأكثر الرابحين من رحيله. لذلك، كان هو المستهدف الأوّل من الاستعمار، ومن شركائه المحليّين.

في مزرعة الفلّاح تتشكّل ذاتياً النواة الصلبة الرافضة للمحتلّ، بل هي متشكّلة أصلاً بطبيعة العمل الفلاحي؛ التعاونية الزراعية.. وفيها تتكاتف الأسر في ما بينها، وفيها يكون العمل والكدّ والإصرار والمرح، وفيها تتشكّل الاستقلالية المالية عن مصادر المدنية الحديثة، استقلالية من كل شيء، إلّا من ماء ينزل من السماء ونبت يصعد من الأرض.

الاحتلال، وإن كان عمليه استيلاء بالقوّة العسكرية على أرض ما لفرض إرادة سياسية على شعب ما، فإن الفلّاحين وحدهم هم من يخسرون ما يملكون، أمّا غيرهم فغالباً ما ينتقلون من وظيفة بيد حاكم إلى آخر. طبيعة عمل التجّار والصناعيّين والموظّفين تحمل في ذاتها إمكانية الانتقال من كتف إلى كتف آخر.

ليس الفلّاح ثورياً فحسب، بل هو نبض الثورة الذي يستشعر أوّلاً خطر فقدان الأرض التي ورثها أباً عن جد، كما ورثها تعباً وكدّاً وعرقاً؛ فهي في صميم وجدانه عمل وعطاء وحصاد. وحين يفقدها، يكون الأقدر على أن يستعيد هذه المعاني ليوظّفها مرّة أخرى ضدّ من سلبه أو سلب شعبه تلك المعاني الكبيرة.

أمّا أصحاب رؤوس الأموال في المدينة، فهم غالباً ما يرون الثورة ضدّ مصالحهم، بل إنهم يواجهونها في بعض الأحيان، ولعلّهم يرون الاستعمار الجديد أفقاً لمدنية جديدة يرنون إليها، غير أنهم ليسوا بالغباء ليندفعوا نحو الالتصاق بالمحتلّ أو المستعمر الجديد علانيةً.

هكذا، يبدون الأعلى صوتاً ضدّه، وهذا الصوت يؤسّس للشراكة مع المحتلّ مترقّباً ومتوجّساً صوت الفلّاحين الأكثر قدرةً على إجهاض أي برنامج سياسي للشراكة والتفاوض مع المحتل عبر أحزاب غالباً ما يؤسّسها أبناء طبقات أصحاب المال من تجّار ومستوردين وصناعيّين.

ابن القرية في نضاله هنا يبدو عاجزاً، أو هكذا يجري تصويره، إن تمسّك بأرضه وأخذ يزرعها، بل قاوم من يمنعه من الوصول إليها، وابن المدينة صاحب الشركة التجارية والوكالات الأجنبية (كثير منها من دولة الاحتلال) هو أكثر من يُساهم في رسم صورة بئيسة وكئيبة لهذا الفلّاح، حتى يوسَم بالرجعية، ليس لأنه، أي الفلّاح، رجعيّاً بوسائل رزقه وأدوات إنتاجه فحسب بنظر ابن المدينة، بل لأن الأخير هو صاحب الامتيازات التجارية من المحتلّ، سيعمل على تأسيس حركه سياسية، لاستيعاب حركه الفلّاحين، التي غالباً ما تتحوّل إلى مشروع سياسي تفاوضي مع المحتل؛ حيث يكون مشروعها السياسي الأوّل هو إخراج طبقه الفلّاحين من معادلة التأثير على القوى الفاعلة في المجتمع.

وهنا ينجح المحتلّ في صناعه الاشتباك الداخلي بين طبقه الفلّاحين المتجذّرة في الأرض وبين طبقات أصحاب رؤوس الأموال الجديدة.

هكذا، ليس غريباً أن يقوم أصحاب رؤوس الأموال في المدن الكبيرة بالتحالف (والشراكة) مع المحتلّ، عبر تأسيس حزب سياسي يقوم على مقاومة من يمتلك الأدوات البسيطة لمقاومة المحتلّ، سواء المزارع أو غيره، فهو بذلك يرى مستقبله السياسي، وبذلك يضمن أن يكون "وريثاً شرعياً" للمحتل، بأدوات المحتلّ.

بل إنهم غالباً ما يتعاونون مع شركات المحتل التجارية، ويدخلونها سوق بلادهم، لتكون منافساً لمراكز القوّة المالية فيهه، والتي تشكّل الزراعة عمودها الفقري، لكنها لا تلبث أن تتحوّل إلى قوّة ثانوية.


(مهندس وباحث فلسطين)

دلالات