اليسار المصري.. إشكاليات التنظيم وبناء البديل الديمقراطي [2-2]

04 مارس 2015
برنامج وتنظيم وحدهما لا يكفيان بدون "روافع جماهيرية" (Getty)
+ الخط -

على المستوى الذاتي والهيكلي، واجهت الحركة اليسارية إشكاليات عدة في بناء تنظيماتها الحركية والحزبية، وهو المرض المزمن الذي ظلَّ أحد العوائق الكبرى أمام تطوير حركة اليسار في الشارع المصري، فأغلب التنظيمات والأحزاب اليسارية تم بناؤها بشكل مركزي من أعلى لأسفل، كما لم تستطع هذه الأحزاب أن تجذب إليها قطاعات منظمة جديدة تمثل قطاعات عمالية أو مهنية مختلفة، أو حتى مجموعات تمثل قطاعات جغرافية ومناطقية لها تواجد وتمركز خارج القاهرة والإسكندرية،

فضلاً عن أن الذي ساهم في بناء أغلب هذه الأحزاب/التنظيمات الجديدة هي الوجوه النخبوية نفسها القادمة من التنظيمات القديمة، وبالتالي حملت الأحزاب والمجموعات الجديدة الأمراض نفسها مثل الاتجاه للمركزية الشديدة، والعصبوية، والبيروقراطية، وهو الأمر الذي حدا بهجرة شباب هذه الأحزاب لتأسيس مجموعات صغيرة جداً، لكن سرعان ما انسحب أعضاء هذه المجموعات منها أو انزوت للأبد.

الملاحظ أيضاً أن الكتلة الصلبة، التي تشكل العمود الفقري لعضوية الأحزاب والحركات اليسارية، أفراد إن لم يكن أغلبهم ينتمي للطبقة المتوسطة العليا، أو الطبقة البرجوازية، فالخلفيات المهنية لأغلبهم التي تشمل (العمل الأكاديمي والبحثي والإعلامي والصحافي والحقوقي) لا تتيح لهم فعلياً فرصة بناء مشاريع حقيقية في الشارع، والتواصل مع الجماهير من خلال الاحتكاك اليومي، ودراسة مشاكل البيئة المراد توسيع عضوية ووجود الحزب فيها، والعمل المتراكم الذي يستلزم تواجداً وتفاعلاً دائماً، وهو أمر نرى نقيضه تماماً في شكل العضوية التي تنتسب لجماعة الإخوان المسلمين، أو الدعوة السلفية بالإسكندرية (الظهير المجتمعي لحزب النور)، أو عضوية جماعات دينية ذات طابع ديني واجتماعي مثل (الجمعية الشرعية)، أو بالطبع شكل العضوية التي كان عليها الحزب المنحل، الحزب الوطني الديمقراطي.

فلا يمكن بناء تنظيم ذي قاعدة اجتماعية ووزن حقيقي بدون انغماس أفراد التنظيم في المجتمعات الشعبية، والأحياء الصغيرة، والقرى، والمناطق المهمشة وانشغالهم بتأسيس مراكز ثقافية وتعليمية، وإنشاء عيادات طبِّية " مجانية" أو ذات أسعار زهيدة يديرها عمال ومتطوعون، ومراكز ثقافية تتيح عرض مسرحيات ودورات تثقيفية للطلبة والأطفال. لا يمكن بناء وزن حقيقي للحزب أو المجموعة السياسية بدون عملية تطوع قوية في المجتمع المحلي، والاشتراك في فعاليات اجتماعية متواصلة لجذب جزء وعضوية جديدة من عمق المجتمع المحلي، لو تم الحديث عن صعوبة هذا الأمر لمشاكل متعلقة بالتمويل والاحتياج لزمن أكبر لبناء هذه القاعدة، فلا يمكن التغافل عن سبب غياب الأحزاب والمجموعات اليسارية عن فتح مسارات عمل وتشبيك داخل المصانع والمجتمعات العُمّالية، من أجل التعبير عن مصالحها، وفتح مساحات بديلة لمناقشة الخطاب الاحتكاري للنموذج النيوليبرالي، والتحرك خطوة للأمام من مساحة النضال النظري للنضال العملي والواقعي للحصول على الدعم الاجتماعي والسياسي، ويظل هذا الغياب أحد الأسباب الرئيسية أمام تشكُّل بديل وشرعنته، وبناء ظهير يساري اجتماعي حقيقي.

وللأسباب المرتبطة بعدم قدرة اليسار على تجذير نفسه شعبياً، وهو الأمر الذي يحتاج في البداية لنوعية كوادر مختلفة، والتحام أكبر بالمجتمع المحلي، والتعبير برؤية برامجية عن قطاعات مجتمعية بعينها، تطل أزمة " التمويل" كأزمة إجرائية تكبل من حركة الأحزاب اليسارية على الأرض، التمويل مصادره عضوية واسعة، ومساهمون يتم التعبير عن مصالحهم ببرامج وسياسات، والتركيز على قضايا اجتماعية واقتصادية تهم فئات بعينها، قضايا محددة واقعياً وقابلة للإصلاح مع الضغط المتواصل، مع التشبيك مع هؤلاء على الأرض يمكن حل جزء من مسألة "التمويل" بالتدريج.

من هنا يجب أن تدرك الحركات اليسارية أهمية العمل على تضفير المطالب السياسية بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية وبناء خط سياسي واضح لهذا التضفير، بمعنى أوضح كما يقول الباحثان، حبيبة محسن وأحمد حسين، في كتاب (خارطة اليسار العربي) أن :" اليسار يمكن أن يكون الصوت الجذري داخل معسكر القوى الديمقراطية، ونقطة جذب هذه القوى، بل مشروع الدمقرطة نفسه، نحو آفاق أكثر ثورية ومواجهة اختزالها في إصلاحات شكلية تافهة، إنه مشروع للعمل بقدميْن: قَدَم داخل المجال السياسي وقَدَم في الحركة الاجتماعية، يعمل على تنظيم الحركة ودعمها كما يسعى لإنتاج بدائلها وتمثيلاتها السياسية باعتباره ظهيرًا للقوى الحية المناضلة في المجتمع دون أن ينتظر إلى الأبد وصوله إلى السلطة السياسية".

ثانياً. المساهمة في بناء بديل سياسي تعني بالضرورة بناء تنظيمات قوية تتواجد فيها مساحة تشاركية، وقدر كبير من اللامركزية، وتطوير دائم للماكينة التنظيمية التي تُسيِّر الحزب/ الحركة بشكل مستمر لإتاحة مرونة لتحرك الأعضاء والمساهمة في بناء التنظيم وإدارته بشكل ديمقراطي، وتعظيم حالة " التمثيل" للقواعد في الأطراف والهوامش، وكي يتم استكمال بناء هذا البديل لا بد من تبني تصوّر برنامج سياسات واضح لإدارة الدولة، ومعبر عن برنامج اقتصادي واجتماعي يمثل مطالب فئات اجتماعية ينحاز لمصالحها الحزب أو التنظيم، وبرنامج وتنظيم وحدهما لا يكفيان بدون " روافع جماهيرية" تصوت للحزب في الانتخابات وتحمله إلى السلطة.


(مصر)

المساهمون