تركيا وحافّة الهاوية

06 يناير 2017
+ الخط -
إذا كان ثَمَّةَ رسالة حملها عام 2016 إلى تركيا، فإن ملخصها أنها بلد يعيش على حافّة الهاوية، وليس فقط ضمن محيط فوضوي مُدَمِّرٍ وَمُدَمَّرٌ. هو تقويمٌ قاس ومتشائم، ولكن مسار الأحداث يؤيده، فضلاً عن أن العام أسدل ستارته بمشهد دموي يعضده، وذلك عندما أطلق مسلح النار داخل مطعم (أو ملهى ليلي، لا يهم)، مردياً عشرات بين قتيل وجريح خلال الاحتفالات برأس السنة في إسطنبول.
إسدال ستارة عام 2016 بذلك الهجوم تكثيف لواقع تركيا اليوم. وهو هجومٌ يضاف إلى هجمات أخرى كثيرة في إسطنبول وأنقرة، ومدن تركية غيرها، بما في ذلك محاولة انقلابية فاشلة صيف العام الماضي. بل ووصل الأمر إلى حد اغتيال السفير الروسي في قلب أنقرة على يدي رجل أمن تركي، تضاربت الأقوال حول حقيقة دوافعه، سواء لناحية أنه أراد الانتقام لضحايا سورية، التي تشارك روسيا في مجزرتها، أم لناحية أنه قد يكون مدسوساً من حركة المعارض التركي، فتح الله غولن، والذي تُحَمِّلُهُ السلطات جُلَّ الخطايا والرزايا التي تجري في البلاد. باختصار، سواء أكان منفذو الجرائم في تركيا من جماعة غولن، أم من عصابات "داعش"، أم من مليشيات حزب العمال الكردستاني، وسواء أكان وراء ذلك قوى إقليمية ودولية أم لا، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها أن تركيا بلد يسهل اختراقه أمنياً، وهي قابلة للانزلاق نحو الفوضى، لا قدّر الله.
اختلف كثيرون بشأن حقيقة هجوم إسطنبول الذي اختتمت تركيا العام السيئ به، وحول ما إذا كان قد وقع في "مطعم" أم "ملهى"، وهل يجوز الشماتة بالقتلى أم لا (هذا بحد ذاته تردٍّ أخلاقي، لكنه ليس موضوعنا هنا). ويبدو أن الغالب لم يستوعب حجم الحدث. فدلالات الهجوم الأخطر تتمحور حول مصير تركيا، لا مصير من يقف بين يدي ربه الآن. لمن لا يرى، أو
من لا زال يعيش حالة إنكار أو وَهْمٍ، فإن تركيا تحولت إلى ملعبٍ من دون خط هجوم فاعل، ولا خط وسط قوي، ولا خط دفاع متماسك، ولا حتى حارس مرمى محترف. إنه يتم التلاعب بها، وإن لم تنجح حكومتها في سد الثغرات، فإن انقلاباً آخر، لا قدّر الله، واقع، وبشكل أكثر دمويةً، أو على الأقل ستدخل تركيا مرحلة الاستنزاف، وهي قد دخلتها فعلاً. فما يجري لعبة بامتداداتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، لا "داعش" ولا حزب عمال فحسب، وأثبتت تركيا، إلى الآن، هشاشةً في قدرتها على التصدّي لكل ما يحاك ضدها. وبالمناسبة، فإن اتهام أن ثمّة أصابع إقليمية ودولية تعبث في تركيا، وتحيك "المؤامرات" ضدها، ليس من عندي، بل هو أمر لا يَمَلُّ الرئيس التركي، طيب رجب أردوغان، وأركان حكومته، من تكراره، وقد صرح مسؤولون أتراك، عقب فشل المحاولة الانقلابية في يوليو/ تموز الماضي، أن الولايات المتحدة متورّطة فيها.
ما سبق توصيف عام، وثَمَّةَ أسباب كثيرة تقف وراء الحال الذي وصلت تركيا إليه، كما أنَّ ثمة سياقات تُؤطِّرُها. فكثيرون هم المستاءون من سياسات تركيا في المنطقة، سواء لناحية محاولاتها نصرة الشعوب المظلومة، كما في سورية والعراق ومصر، أم لناحية محاولات إجهاض أنموذجها الناجح في نقل تركيا من دولةٍ فاشلةٍ إلى قوة إقليمية معتبرة، وقوة اقتصادية عالمية، وضعها في قائمة أقوى عشرين اقتصادا عالميا. فمنذ وصول حزب العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان، إلى الحكم، عام 2002، حققت تركيا قفزاتٍ اقتصادية هائلة، وهي كانت تسير على هديٍّ من عزيمة مؤدّاها أن تكون ضمن نادي العشرة الكبار اقتصادياً على مستوى العالم مع حلول عام 2023، وهو الأمر المشكوك فيه الآن، إن استمرت أزمات تركيا الجيوستراتيجية، فضلا عن الاختراقات الأمنية لها.
مشكلة تركيا الأساسية أنها قوة إقليمية بلا حلفاء حقيقيين. فعلى الرغم من أنها عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، منذ خمسينات القرن الماضي، إلا أن مصالحها في المنطقة تتضارب مع حسابات الحلف، بقيادته الأميركية، خصوصا لناحية دعم الأكراد في سورية، وهو ما يثير
هواجس تركيا وامتعاضها، فتركيا تخشى أن تكون تلك مقدمةً لقيام دولة كردية في الإقليم، تضم جنوبها. أيضا، وعلى الرغم من عقود من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه، إلا أن هذه المفاوضات لم تفض إلى شيء تحت حكومات "علمانية"، دع عنك أن تفضي إلى شيء تحت حزب العدالة والتنمية المصنف أنه ذو "خلفية إسلامية". وعلى الرغم من أن عام 2016 شهد إصلاحا نسبيا للعلاقات التركية مع كل من إسرائيل وروسيا، إلا أن ذلك لا يعني توافقاً في الرؤى واتفاقاً في الحسابات والتقاءً في المصالح في غالب الأحيان، فالأمر منبثقٌ من حسابات الضرورة، لا المبادئ والقناعات. وعلى صعيد العلاقات التركية - العربية، فإنها ليست أحسن حالا، اللهم إلا مع قطر التي تشترك مع تركيا في دعم الشعوب العربية المظلومة، كما في سورية. ولكن غالب العلاقات التركية - العربية متوترة. وحتى مع التقارب التركي - السعودي في الرؤى، خصوصاً في السياق السوري، إلا أن ذلك لم يصل إلى حد التوافق في الحسابات والمواقف الإقليمية. أما العلاقات مع إيران، والنظام الطائفي في العراق، ونظام بشار الأسد في سورية، فهي سيئة جدا.
تمدّدت تركيا ما وراء حجمها وإمكاناتها في إقليم مشتعل بوجود أعداء كثر وقليل من الحلفاء. وهذا لا يعني أبدا أن تركيا ليست دولة إقليمية مركزية وقوية، ولكن مشكلات الإقليم أصبحت صراعاً دولياً بالوكالة، قطباه الولايات المتحدة وروسيا. وتركيا، بحساباتها وقيادتها الحالية، ليست حليفا طبيعيا للطرفين. أضف إلى ذلك أن المحاولة الانقلابية عَرَّت حقيقة مهمة، وهي أنه لا يوجد توافق في نخب الحكم ومؤسساته حول وجهة تركيا وهويتها، وهذا هو الخطر الأكبر عليها. أمام ذلك كله، تجد تركيا نفسها مضطرة اليوم إلى إحداث انعطافةٍ في سياستها الخارجية تعيدها إلى حجم قدراتها الفعلية والحقيقية، ضمن سياق ظروفها الداخلية والخارجية، إلى حين تستعيد توازنها. هذا هو ما حاولت فعله بالضبط، قبل أشهر، عبر محاولة تخفيف التوتر مع كل من إسرائيل وروسيا. وهذا ما تحاول تعضيده اليوم عبر مساعيها، مع روسيا، لحلحلة الاستعصاءات في المحرقة السورية، بعد أن فقدت أوراقها الأساسية فيها، والأمر نفسه تسعى إلى فعله في العراق، عبر محاولة فتح صفحة جديدة مع حكومة حيدر العبادي. وحتى تهدئة المنطقة وَلَمْلَمَتِ فوضاها، ستبقى تركيا تقف على حافة الهاوية، ولن يكون حزب العمال الكردستاني و"داعش" أكثر من أدواتٍ في محاولة لدفعها نحو أتون الفوضى.