خصومة السياسة والأخلاق

11 أكتوبر 2016
+ الخط -
علاقة السياسة بالأخلاق موضوع قديم جديد، وسيبقى مطروحا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. يؤكد الجميع أن السياسة يجب ألا تنفصل عن الحد الأدنى من الثوابت الأخلاقية. لكن، إذا تجاوزنا الخطاب، ونظرنا في ما يمارس على الأرض، وجدنا أن من النادر أن يتقيد السياسيون، بمختلف اتجاهاتهم وعقائدهم وجنسياتهم، بما تمليه القيم بقدر خضوعهم لشهواتهم ومصالحهم ولموازين القوى، ولما يسمونه بالواقعية. يتضح ذلك عند استعراض أبرز الملفات التي تقض مضاجع العرب في اللحظات الراهنة.
أولى هذه الملفات، وأكثرها وضوحا وعدالة، ونقصد بها القضية الفلسطينية. قتلت هذه القضية بحثاً، وفي كل مرحلة من تاريخها، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مطالبة جديدة بأن يكونوا أكثر واقعية من قبل. ولا تعني الواقعية السياسية، في هذا السياق، ما قصده علماء السياسة، وإنما يقصد بها الدفع نحو مزيد من التنازلات المتعلقة بالأرض ومقومات السيادة وتنزيل سقف المطالب المشروعة وإدانة اللجوء الى المقاومة، حتى في حالات اليأس.
أما الملف الثاني الذي يمكن التوقف عنده فهو السوري. قاسى الشعب السوري، في السنوات الأخيرة، ما لم يكن في الحسبان، فالذي تعرّض له السوريون فيها تجاوز كل الاحتمالات، ولا يمكن تبريره بأي حجة أو منطق، باستثناء القول إن ما يحصل هو انتقام وحشي من شعبٍ، جريمته الوحيدة أنه، في لحظةٍ، طالب بالقليل من الحرية والمساوة والعدالة. واليوم، وجد السوريون أنفسهم مبعثرين فوق طاولة التشريح الإقليمي والدولي. كلٌّ يريد إخضاعهم لمصالحه ونفوذه. لقد تخلى العالم عن سورية الشعب وسورية التاريخ والحضارة، وتحولت، لدى اللاعبين الكبار، إلى أشبه بالجثة التي يُراد تقطيع أجزائها، كل وفق ما يريدون، وليس وفق ما يريده السوريون. تبخّرت ثورة الحقوق، وضاع الحلم بإقامة دولة ديمقراطية، بعد أن تحول جزء مهم وحيوي من الشعب إلى لاجئين موزعين بين الأمم، وكثير منهم قد لا يعودون إلى وطنهم الأم. وهذا يؤكد أن السياسة في عالمنا العربي في تعارض كامل مع الأخلاق.
في هذه الظروف الإنسانية الخانقة، تتم مطالبة من لا يزالون يعتقدون أنهم يمثلون الشعب السوري بمزيد من التنازل طوعاً أو كرهاً، سواء لصالح النظام الذي أنعشته التطورات الأخيرة، وجعلته يعتقد بأنه يمكن أن ينتصر، ويستعيد دوره في حكم سورية، كل سورية، أو بالنسبة للأطراف الإقليمية والدولية المتحكّمة في الأزمة السورية.
يخص المثال الثالث اليمن الذي يمر بأزمةٍ هيكلية، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآلاتها. فالحاكم السابق علي عبد الله صالح الذي كان طرفاً مهماً في توحيد اليمن، ها هو اليوم يصبح لاعباً رئيسياً في تقسيمها وإخضاعها للعبة إقليمية ودولية، لا تراعي أي مصلحة من مصالح الشعب. وما المفاوضات التي تستأنف، ثم تتوقف، إلا واحدة من آليات الدفع نحو الابتزاز واستنزاف طاقة التحمّل والصبر لدى عموم اليمنيين.
المثال الأخير هنا هو الحالة الليبية التي كلما فتحت فجوةٌ للخروج من النفق السياسي، إلا وسدَّ طرفٌ ما، داخلي أو خارجي، تلك الكوّة، حتى يستمر الدوران في حلقة مفرغة يتمعش منها كثيرون، كلّ حسب وزنه وقوته ومدى تأثيره على الساحة المحلية. ومن هناك، يقع الدفاع أيضا بالليبيين إلى نوعٍ من الواقعية السياسية القاتلة، تهدّده وحدة الشعب والوطن والمصير.
ليست هذه الواقعية السياسية التي نظّر لها بعضهم بدءاً من هوبز وميكافيللي. ما يجري حالياً يشبه خطةً تتعاون على تنفيذها أطراف متعدّدة، ذات مصالح متعارضة، لكنها ستؤدي، إذا ما استمرت، إلى تغيير جوهري في خارطة المنطقة، إلى جانب اغتيال روح التحرّر في الشعوب العربية التي ستخير في المستقبل، كلما أرادت أن تطالب بحقٍّ من حقوقها، بين القتل رمياً بالرصاص أو الموت سمّاً.