داعش والخطاب الطائفي

28 نوفمبر 2015

دمار أحدثه تفجير داعش في مسجد للشيعة بالقطيف (مايو/2015/Getty)

+ الخط -
مستودعٌ ضخمٌ من الأسئلة، حول ظاهرة "داعش"، لكن الغرف فيه يبدأ وينتهي من المكان نفسه. خارطة نقاشٍ محلية وعربيّة، جهدت فيها الحجج لحراسة حدود منطقٍ مبتذل. ظاهرةٌ، بقدر مفاجأتها للجميع، فاجأت منتسبيها أنفسهم.
حلمٌ يتفجر بوعد الخلافة، وشُعاع نورٍ يعم الكوكب، بطوباوية الإمبراطوريات العادلة، تلك التي خذلتها حداثة العرب المرتبكة. طموح متنورين أضحى على أطراف هذا الحلم كئيباً، وفي حالة من الصدمة. كيف لعناوين كانت تُقرأ في كتب التراث، واعتقد هؤلاء المتنورون أنها باتت نَسْيَاً منسياً، أن تتصدّر، في هذا الزمن، عناوين النقاش الرئيسة، غير أن النقاش يتجاوز الأسئلة، بشأن نشوء الظاهرة، إلى علاقتها بظواهر أخرى، تعانيها مجتمعاتنا العربية، منها التحريض الطائفي وخطابات الكراهية المذهبية، حيث يجهد بعض من يناقشون المسألة في إنكار الصلة بين الظاهرة الداعشية والتحريض المذهبي.
دائماً ما يُطرح السؤال على هذا النحو: ما مدى تورط خطابات التسعير الطائفي والكراهية المذهبية في تعزيز ظاهرة مثل تنظيم داعش في مجتمعاتنا؟ أمام هذا السؤال، ثمة فريقان، يقدمان إجابتين مختلفتين. الأول، تلقف المقطع المصوّر، المتداول أخيراً، في وسائل إعلام عربية وعالمية، وعلى نطاق واسع، والذي ظهر فيه الشيخ محمد المحيسني، في جامع الراجحي في مكة المكرمة، وهو يدعو على الأديان كافة، والمذاهب الإسلامية، بخلاف "أهل السنّة والجماعة" طبعًا، بالشرِّ والهلاك، ليثبت هذا الفريق دعواه بصلة خطاب الكراهية بنشوء الظاهرة الداعشية وتمددها. ينفي الفريق الثاني أي علاقة لمثل "خطابات الكراهية" هذه، والمناهج الدينية، خصوصاً في السعودية، والدول الخليجية، في رفد تنظيم "داعش" بأي شيء، وبمبررات مختلفة. وما يمكن ملاحظته، في مجمل اختلافات الفريقين، تركيز الأول على التقاط ما يعتبره دعماً ضمنياً لخطاب تنظيم الدولة وممارساته، وربطه مباشرة بما يفعله هذا التنظيم، في مقابل تركيز الفريق الآخر على وجود دعمٍ صريح لتنظيم الدولة من عدمه في الخطاب. وتالياً، إنكار الصلة بين خطابات الكراهية وما يقوم به تنظيم داعش من سلوكيات على الأرض، لعدم وجود دعمٍ صريح في خطابات الكراهية للقتل الذي يمارسه التنظيم.

التعريف والخطاب
من أهم المواضيع التي يجري تداولها في الساحتين، السياسية والثقافية العربية، موضوع "التحريض" الديني والمذهبي، وإشكالياته في واقع المشرق العربي، والذي يغرق في الحروب
الأهلية، وآثارها وتداعياتها على الإقليم والمنطقة. موضوع "التحريض" يمكن فهمه، أولًا، بعد أن يتم وضع تعريف دقيق له. وفي محاولة مقاربة التعريف، يمكن القول إن "التحريض" هو الحضَّ، وتشديد الرّغبَة في الأمر، والدعوة الصريحة والواضحة لفعله، مثلاً: الدعوة إلى القتل، كما هو في خطاب جماعة "الدولة الإسلامية"، من أكثر الخطابات التحريضية الواضحة، من خلال دعوته الصريحة إلى قتال أهل الأديان والطوائف الأخرى، وبمبررات عقائدية. في المقابل، خطاب الشيخ محمد المحيسني، وأشباهه، لا يمكن أن يتم فيه التقاط أي من الكلمات، أو المفردات، التي تدل، دلالة واضحة وصريحة، على مسألة "التحريض" على القتل، لكنه قطعاً "خطاب كراهية"، وهو الذي يمكن تعريفه بأنه خطاب يهاجم أفراداً ومجموعات على أساس الصفات، كالجنس والأصل العرقي والدين..إلخ. ليس هذا الخطاب بالضرورة أن يتضمن شكلاً من أشكال التحريض المباشر على القتل، وهذا لا ينفي، في الوقت نفسه، إمكانية تضمنه التحريض.
في محاولة فحص هذا التداخل بين هذه الخطابات المختلفة، من الممكن أن يُقال عن خطاب مثل خطاب "الدولة الإسلامية"، أنه "خطاب كراهية" و"تحريض" في آنٍ، بينما يمكن تسمية خطاب الشيخ محمد المحيسني، وأشباهه، "خطاب كراهية". لكن، لا يوجد فيه دعوة صريحة للقتل والانتقام. يكون السؤال حينئذ: هل خلو "خطاب الكراهية" من تحريض صريح ينفي عنه صفة "التعبئة والتحشيد"، وهي الحالة التي تُغَذِّي خطاب التحريض على القتل؟ لا. ليس هذا الجواب تكلفًا في سبيل التجني، ويمكن فهمه بالعودة إلى أواخر إصدارات جماعة "الدولة الإسلامية".

أئمة مُضِلُّون
انتشر تسجيلٌ لجماعة "الدولة الإسلامية" قبل فترة، كان قد صدر عمّا سُمي: "المكتب الإعلامي في ولاية حلب"، وعنوانه: "رسالة إلى أهل السنّة في بلاد الحرمين"، وفي فقرة عنوانها: "الأئمة المضلون"، هاجم التسجيل دعاة سعوديين، منهم عبد العزيز الفوزان، وصالح الفوزان، وناصر العمر، ومحمد العريفي. وقال واحد ممن ظهروا في التسجيل، ويُدعى "أبو فهد الجزراوي" : "بعضٌ منهم كان يُكفّر عوام الروافض، لكن بعد التفجيرات المباركة، وقفوا في صفهم ضد المجاهدين". والمعنى، هنا، أن "المشايخ وطلبة العلم"، ومن تَسَلْسَلَ المشهد في بث لقطاتٍ لعددٍ منهم، وصورٍ لمشاركاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، كانوا يُكفّرون الشيعة، ويدعون عليهم، ويحذرون منهم، في الوقت نفسه، تم بث لقطات وصور للأسماء نفسها، يرفضون فيها العمليات الانتحارية لتنظيم الدولة ضد الشيعة داخل السعودية.
ما يمكن ملاحظته، في هذا السياق الذي تعاملت فيه جماعة "الدولة الإسلامية" مع المسألة، والفهم الذي يصدر عن هذا التعامل، أن كل المشاهد والصور التي بثتها لعدد من هؤلاء المشايخ وطلبة العلم، ليس فيها تحريضٌ واحد صريح على قتل الشيعة، وإنما تكفيرٌ، ودعاءٌ عليهم وتحذيرٌ منهم، وهذا طبعاً بصفتهم شيعة، ما يعني أننا أمام سلسلة كبيرة من "خطابات الكراهية". قامت جماعة الدولة هنا بوضعها متقابلات، وفي مسار تناقض، مع مشاهد وصور ظهروا فيها بأنفسهم، يرفضون العمليات الانتحارية. هذا يعني، بوضوح، أن التناقض، هنا، ليس في حالة "التحريض" نفسها، أي في مثل أن يكون أحدهم قد حرّض بشكلٍ مباشر وصريح، ومن ثم تناقض مع هذا التحريض، في رفضه العمليات الانتحارية بعدئذٍ. إن تناقضاً كهذا سيبدو بسيطًا، ومن الممكن استشعاره بسهولة. إلا أن التناقض الذي قدمته الجماعة، في هذا السياق، هو ما بين أن تكون صاحب "خطاب كراهية" وأن ترفض عملياتهم الانتحارية ضد المستهدفين بخطاب الكراهية. وإلا كيف لك أن تُكفّر هؤلاء، وتدعو عليهم وتحذّر منهم، ومن ثم ترفض قتلهم؟ نعم، هذا الفهم الذي قدمته الجماعة، في هذا العدد من المشاهد والصور، يعني، وبصورة أخرى، أن "خطابات الكراهية" بنفسها هي محط استثمارٍ جيّد لهم، وليست هناك حاجة كبيرة أن تتضمن تحريضاً صريحاً، طالما أنها تعزز حالة "التعبئة والتحشيد"، وهي الحالة المطلوبة للحصول على بيئةٍ حاضنةٍ يتمدد فيها خطاب التحريض الداعشي على القتل، لا سيما وأن المنطلقات هنا مشتركة بين الخطابين، من حيث رؤيتهما "العدو"، وتشنجهما منه، وتحشيدهما ضده، وهذا الذي فتح المجال أمام جماعة الدولة لنسج مثل هذه المتقابلات، ودعوى التناقض.

مظلومية حديثة
لا تكشف هذه التسجيلات للقطات والصور لنا الأمر على هذا النحو وحسب، لكنها بمثابة
التوضيح لحالة من التشويش، يتعمد بعضهم ممارسته بشأن علاقة خطاب الكراهية بالتحريض على القتل. ما يجدر التذكير به، أنه، من خلال هذا التشويش، تقدّم نُخب تدَّعي أنها من مجالات أخرى غير دينية، وتحت يافطة: المظلوميات السياسية، في المسألة الطائفية، إسهاماً يماثل إسهام الدعاة وطلبة العلم في التجييش الطائفي، عبر عطاءٍ سخي، لا ينطلق من العناوين العقائدية والتراثية، وإنما يستدعي وقائع مُعاصِرَة للتجييش والتعبئة في إطارٍ طائفي. بدلاً من استدعاء قضايا الخلاف المذهبي التاريخي والعقائدي، يتم استدعاء ما يرونه غبناً وقهراً للطائفة، وحرماناً لها من التمثيل والنفوذ في معادلات سياسية كثيرة، ومحدودية حصتها ضمن أنظمة المحاصصة، ونقص الدعم السياسي والعسكري لها في مواجهة الطوائف الأخرى، من القوى الإقليمية والدولية، في مقابل توسع طوائف أخرى ونفوذها، واستحواذها على عناصر قوة سياسية وعسكرية، وتمكنها من امتلاك أجود أنواع الأسلحة وأحدثها.
ما بين فرص الصعود وتهديدات الأفول في سردياتهم هذه، حول جماعاتهم الأهلية، يكون الحال، بعدئذٍ، الخروج من سرديّات الخطر العقائدي التي هي، في أصلها وأساسها، ليست إلا سرديات في صالح شد "العصب الطائفي"، للدخول في سرديات حديثة، لا تتكلم بلسان التاريخ، ولا تستورد من مفردات التراث، لكنها أكثر فاعلية في التجييش الطائفي، بحكم الذاكرة الحاضرة، ووقائع الأحداث، وآلات الإعلام الحديث، البارعة في الضخ السياسي المذهبي.

ظروف عصيبة
"خطابات الكراهية" هذه هي العتبة الأولى، والدرجة الوسيطة نحو "التحريض"، وهي تخدم المشروع الداعشي الفتنوي والتفتيتي للأمة ومكوناتها، وما كان من الممكن أن يتم استدعاؤها في خطاب جماعة الدولة، بوصفها حالة "إدانة"، وإسقاطاً لشرعية "المشايخ وطلبة العلم"، ووصفهم بأنهم "أئمة مضلون، وعلماء سلاطين"، لولا أن خطاب الكراهية في الفهم الداعشي مقدمة تقود إلى نتيجة القتل على الهوية. يرتكز الضلال، هنا، إلى التوقعات التي كانت جماعة "الدولة الإسلامية" تبنيها حول هؤلاء "المشايخ وطلبة العلم". نعم، يحصل هذا الهجوم، الآن، إثر خيبة أمل هذا التوقع، خصوصاً بعد أن تبدى وقوف هؤلاء "المشايخ وطلبة العلم" على العتبة الأولى نحو الأمل الداعشي.
يغيّب النقاش الذي يجري حول الموضوع، عن قصد أو من دونه، هذه الدرجة الوسيطة بين "خطابات الكراهية" و "خطابات التحريض"، ولا يلحظ بعضهم التقاطع بين ما تقدمه تلك النُخب "المثقفة" من سرديات سياسية لمظلوميات حديثة، وتحليلاتها ورؤيتها الطائفية لصراعات المنطقة، مع "خطابات الكراهية" الدينية، حيث يسهم الخطاب الطائفي السياسي، بدرجاته وألوانه المختلفة، مع خطاب الكراهية العقائدي، في تهيئة الأجواء الملائمة لتمدد خطاب جماعة الدولة التحريضي، والذي يجد بيئة خصبة للنمو والازدهار في الأجواء الطائفية.
وهذا لا يعني أن خطابات الكراهية الدينية هي السبب المباشر في نشأة تنظيم داعش، ولا يعني، أيضاً، أن المناهج الدينية والتراث السلفي هي الباعث الأساس لهذه الظاهرة، وأن تجريم خطاب
الكراهية العقائدي يكفي للقضاء على ظاهرة داعش، إذ تأثيرات صراعات الهوية أكبر من أثر التعاليم الدينية السلفية، فالاستنفار الطائفي يشمل، كما أوضحنا، مجموعاتٍ لا ترفع اليافطة الدينية، وبعضهم يرفع شعاراتٍ علمانية، لكنهم منخرطون في التأزيم الطائفي، ضمن حالة صراع هوية، ما يؤكد أن المسألة أوسع من اختزالها في مسؤولية خطاب الكراهية الديني عن صناعة ظاهرة معقدة، مثل تنظيم داعش، تضافرت عدة عوامل سياسية واقتصادية في تشكيلها ورسم ملامحها.
دفع الناس إلى قتال بعضهم ليس أمراً هيناً وسهلاً، الذي يمكن القيام به، من دون تعبئة وتحشيد، وهذا ما تفعله "خطابات الكراهية"، كما أن "خطابات الكراهية" لا يمكن أن تكون، بأي حال، خطاباتٍ تساهم في تعزيز حالة من الاستقرار، وتحافظ على السِلم الأهلي، وتعمل على تعضيد اللحمة الوطنية وتمتينها، بل على العكس. تحقق هذه الخطابات انتشاراً أوسع في المجال العام، عبر مساعدة المظلوميات الحديثة، والسرديات السياسية التي تقدمها النُخب المثفقة، لصراعات المنطقة، وتنصر فيها جماعة أهلية، على أخرى، في خلاف ما عليه هذه الصراعات من مصالح سياسية لمحاور إقليمية، وإن توارت خلف شعارات ودعايات طائفية ودينية.
يكشف هذا الأمر جليًا، وبوضوحٍ كبير، عن أهمية مواجهة مثل هذه الخطابات التفتيتية والفتنوية على كل مستوياتها وتراتبياتها، بدايةً من هؤلاء الذين يقدمون أنفسهم نخباً متقدمة في مجتمعاتهم، يستترون بادعاءات ثقافية وفكرية، وهم ليسوا إلا خدماً في بلاط دعاة الخراب، يعزّزون من رصيدهم، عبر التقسيم الطائفي، وبث شعورٍ بعدم الأمن والثقة بين المكونات الإجتماعية. واقع هذه الخطابات يجب أن يكون مقلقًا لنا جميعًا، فحالةٌ من اليأس والإحباط تتراكم، وتعمل انعكاساتها على إيجاد شروخ اجتماعية واسعة وخطيرة، لا سقف لها ولا أفق، وقليلٌ من النخب من يتحمل مسؤولية الكلمة في هذا الظرف العصيب.

5331560B-A376-4578-ABB5-2C704BD4DE0A
ثمر المرزوقي

كاتب سعودي