غراميات السجن السياسي

11 فبراير 2015
لا يصمد قلبها أمام موت زوجها على أعتاب زنزانتها(Getty)
+ الخط -

كنا نسترق الأمل بغناء ثوري لنبدأ به صباح كل يوم جديد، كي لا ندع لليأس مجالاً أن يتسلل إلى قلوبنا. "باب الزنزانة.. ورفيق الحبس.. وسرير مش ميري.. من غير بطاطين.. والظلمة زيادة.. عن أول أمس.. وطابور الذنب.. مش جنائيين.. وأنا ذنب بلادي.. حرية وعدل.. وكرامة انداست.. وداسوني وراها.. أخدوني رهينة.. حبسوني بغدر.. وقالوا لي بلادك مش حمل الفجر والفجر قريب.. كل الأسوار ما بتمنعهوش.. والظلم إن ساد.. وخلاله بلاد أوتاده فشوش.. لساني بغني.. للوطن الغايب.. ومخاصم ليلكم.. يا نظام الشايب.. تصبحوا على دولة.. ما فيهاش سجان.. بيجامل ماضي، على قفا شبان".

غابت شمس يوم الخامس من أبريل/نيسان استحياءً من ذلك المشهد، فأبطال اليوم ليسوا في حاجة لمن يتحدث عن علاقتهما التي انتهت بلحظة كان ينتظر فيها زوج المعتقلة رشا منير لحظة خروجها إليه في قفص الزيارة بسجن القناطر كي يعانق روحها قبل أن يلاقي ربه على أعتاب سجن القناطر.

كانت رشا كالفراشة تحب الغناء ومتابعة جيدة للبرامج الإذاعية الإخبارية، تقف وسط العنبر تردد الأغاني بحماسة، تعرف كيف تكسب محبة من حولها، مرآة تجيد التعامل مع الغير، تجدها ساجدة باكيّة لربها، محبة لأخواتها، كثيرة الحديث عن بناتها وعلاقتها بزوجها الطيبة، والتي تخشى أن يحسدهم الناس على ما هم فيه.

تنتظر يوم السبت بفارغ الصبر، باعتبار لقاء زوجها فيه مهم، لا يجب أن يمر عليها مرور الكرام، أحيانا كانت تقوم بإعداد الفطور استدعاءً منها لمشاعر الزوجة التي تقوم برعاية زوجها، وفي قفص الزيارة تجتمع الأسرة ويفترشون الأرض لتناول الفطار، "سوا" هي وزوجها وبناتها.

كلمة "زيارة" في قاموس معتقلات أمثالنا تعني إفراجاً جزئيّاً، الفرحة تغمرنا حينما نسمع أن هناك زيارة لواحدة منا، كانت رشا تهندم نفسها أمام مرايا صغيرة، وترتدي نقابها في انتظار الخروج إلى زوجها، خرجت رشا وبعد دقائق معدودة، فوجئنا بضجة في الخارج، وإحدى الجنائيات تخبرنا بأن زوج رشا توفي، قبل أن تخرج لرؤيته بلحظات!! الكل تسمر في مكانه، وعيوننا اتسعت من هول الصدمة، كيف نهون عليها مصيبتها في فقدان زوجها..

جاءت أمل مسؤولة "النبطشية" لتخبرنا بوفاة زوج رشا إثر إصابته بنوبة قلبية، وهو في انتظارها في قفص السجن، الجميع تسمر في مكانه، أعيننا اتسعت من هول الصدمة.. وأصبح السؤال الشاغل، كيف نهون عليها فقدان زوجها الذي كان من قلبها بمكانة، ومن لأبنائها؟

فشقيقتها معتقلة بالقضية نفسها.. وأمها امرأة عجوز، تحتاج إلى من يقوم على خدمتها، دخلت رشا وهي تجر في قدميها أوعية عينها تقطعت من فرط البكاء، الجميع يحاوط سريرها، الجنائيات يتوافدن عليها لتقديم واجب العزاء الذي استمر لطول اليوم، لم يصمد قلب واحدة منّا أمام قهر زوجة، يموت زوجها على أعتاب زنزانتها، وتحرم من أن تودعه وتشاركه لحظاته الأخيرة فوق الأرض.

ولم تشارك في عزائه وتحتضن ابنتيها الصغيرتين، إذ الكبرى لم تتجاوز ثامنية أعوام، فمشاعر الأمومة قد تطغى على نيران الحرية وألم الفراق.

خشينا على قلبها وهي مريضة القلب، كنا نتجنب الدخول في أي نقاشات تتعلق بالحريات، كي لا نثير غضبتها، لتدهش الجميع للمرة الثانية بأن تمسك الراديو الصغير وتفترش الأرض وتنادي علينا بصوتها المحتسب قائلة "يلا يا بنات تعالوا عشان يتحرق دمنا ونسمع أخبار النهاردة ومصر فيها إيه؟ يا رب كن من الفئة التي تحبك وتحبها".

فالجميع يسرع إليها ويقبل وجنتيها، ويهتف باسمها، ونعاود نهتف بأغان ثورية تدب الروح في أجسادنا مرة أخرى.

ملحوظة مستفزة: رشا منير وأختها صدر عليهما حكم قضائي بالمؤبد عقب خروجي من السجن!


"جواب غرامي"

السجينات في العنبر يلقبنها بفرجينيا الإخوان، هي الحرة الصغيرة أسماء مختار، اعتقالها حال بينها وبين دراستها في أول عام دراسي لها في جامعة عين شمس، وجاءت الطامة الكبرى ليصدر ضدها حكم قضائي بالحبس خمس سنوات بتهمة حيازة "نبلة"!!

اقتربت نحو سريري رقيقة الطبع والملامح، قالت لي على استحياء: "سماح.. ممكن تساعديني أكتب جواباً، اعتدلت من نومتي ونظرت إليها بخبث امرأة، قائلة: جواب إيه يا أسماء؟! رفعت حاجبها في محاولة منها لاستجماع قوتها وكسر الخجل الذي جعل وجهها أكثر حمرة: "جواب لخطيبي يا سماح".

كانت أسماء تلتزم بمكان نومها، لا تتحدث كثيراً، تمسك بأوراقها وقلمها، وتظل تكتب بالساعات، لا أحد يعرف ماذا تكتب أو لمن! وبعدما تنتهي من كتاباتها تغلق كشكولها أو تمزق كلماتها لكي لا يراها أحد، وتسحب بغطاء فراشتها على وجهها لتنهي يومها ببكاء.

كنت أتابعها من سريري المقابل، ولكني تعودت ألا أقتحم حياة من حولي، فأدعو بأن يخفف الله عن صغيرتي، والتي لم تعرف ماذا يخفي القدر لها، تبوح لي فتزيدني حبّاً في الإخوان، وهي تفرك بيديها تبحث عن كلمات تعبر بها عن مشاعرها ببراءة منقطعة النظير.

"يا سماح.. أنا مش عارفة والله أكتب جواب"، ثم انطلقت الكلمات منها بعشوائية كالرصاص، جمل بسيطة ولكنها تحمل بين طياتها ما يجعلك تكفر أمام صدقها بدولة القانون الذي يتلون كالحرباء، عاوزه أقوله يصبر.. أنا مخطوبة قبل مدخل "السجن" بأيام، ملحقناش نفرح ببعض، أهله كانوا فرحانيين بارتباطنا.. يا رب رأيهم ميتغيرش السنة دي.. راحت علي طب والسنة الجاية تفتكري هخرج في الاستئناف على الحكم، أصل خمس سنيين برضو انتظار كتير يا سماح عليه.. كان حاطط أمل نتجوز قبل مخلص جامعة.. عاوزة أقوله كلمة حلوة بس ميبقاش فيها مخالفة شرعية.

قاطعت كلماتها التي تقطعني متساءلة: هو أنت اتعذبت يا أسماء خلال اعتقالك؟! بابتسامة قهر تتحدث "بصي يا سماح.. أكتر حاجة مدايقاني إن الضابط ضربني ونزع حجابي.. والمصيبة الأكبر أن خطيبي شاف مشهد السحل ده ع النت، ولما روحت القسم اتعرضت للضرب وغموا عيني وقعدوا يشتموا فيا، ولما سألت الضابط أنت ليه بتشتم، مد إيده علي".

"الضربات القوية تصقل الحديد وتهشم الزجاج"، قلت لها استهلي جوابك بتلك الجملة يا أسماء، ولا تقلقلي سيفوز بكِ عن قريب، وإن تخلى عنك فهو الخاسر، سارعت "لأ يا سماح هو هيصبر عشان يعني "بيحبني"، عصفورة المعتقل طارت فرحاً بعد أن وجدت أحداً يشاركها همومها، وفي كل يوم تأتي لتقص علينا طرائفها مع خطيبها، وتسألنا عن طريقة نساعدها فيها على المذاكرة، كانت تبكي أحيانا أمام الكتب وهي تتذكر أمها وأخواتها وتحن شوقاً إليهن.

مشاعر رقيقة تجسدها أسماء بإتقان من خلال جوابات تحاول تسريبها في معصم يديها.. "بصي يا سماح جوابات شرعية أهو"، هكذا تعلق بعد قراءة جوابات خطيبها ثم تنهض لسريرها لتقرأها بإمعان، مرات ومرات، وجميعها تدور في فلك واحد.. انتظر حتى يأتي الله بفرج قريب..


(مصر)

المساهمون