كلام الثوار والمقموعين.. عندما يكسر الأدب أسوار السجون

08 يناير 2015
تركز بعض الروايات على الوقائع داخل السجن (Getty)
+ الخط -

قد لا يعلم محمد سلطان ويارا سلام والآلاف غيرهم من السجناء السياسيين وهم يكافحون للحفاظ على إرادتهم وحياتهم ذاتها في السجن أن كفاحهم هذا قد يكون شرارة إلهام لعمل أدبي يخلد نضالهم ضد الظلم وينضم لقائمة طويلة من الأعمال العربية التي تندرج ضمن ما بات يعرف عربيّاً بـ"أدب السجون".

وعلى مدى عشرات الأعوام أخرجت المطابع مئات العناوين لروائيين ومثقفين عرب حاولت أن تقدم جوانب من قسوة تجربة السجون العربية بدءاً من "تلك الرائحة" للمصري "صنع الله ابراهيم" والتي صدرت طبعتها الأولى في مصر عام 1966 وحتى "برتقالات الرئيس" للعراقي/الألماني "عباس خضر" والتي صدرت، أولاً، بالألمانية عام 2011.

ورغم قوة هذه الأعمال وغيرها تظل رواية "شرق المتوسط" لـ"عبدالرحمن منيف" (الطبعة الأولى 1972) أكثر كتب أدب السجون العربية نجاحاً.

فعبد الرحمن منيف العربي الهوى والهوية، حيث تعود جذوره إلى الجزيرة العربية، ولكنه عاش بعيداً عنها متجولاً بين الأقطار العربية الأخرى، قدم في روايته تجربة سجن قد يكون في أي دولة عربية.
***

لا تقابلنا في رواية "شرق المتوسط" أسماء دول أو مدن.. فقط تجربة بشر يسحقهم السجن جسديّاً وروحيّاً، وهم يقاومون، فنراه يقول "السجن في أيامه الأولى حاول أن يقتل جسدي. لم أكن أتصور أني احتمل كل ما فعلوه، لكني احتملت. كانت إرادتي هي وحدها التي تتلقى الضربات وتردها نظرات غاضبة وصمتاً".

تحكي الرواية قصة "رجب" الذي قضى في السجن خمس سنوات بتهمة سياسية لا يحددها الكاتب وخرج بعد أن وقع تعهداً بترك العمل السياسي أي بالتنازل عن أفكاره، لا تذكر الرواية منطوق الإقرار لكنها تبرز إحساس البطل بالعار بعد توقيعه.
***
تقدم الرواية عبر صفحاتها التي تربو على المائتين صوراً من عذابات السجناء الجسدية والنفسية، تتحدث عن شوق الأزواج لزوجاتهم وعن ألم فقد الحبيبة وفقدان الأم.

"ضاعت هدى لأنني كنت سجيناً" هكذا يحدث البطل نفسه، قبل أن يصرح لزملاء الزنزانة "أرجو ألا تسألوني، بعد اليوم، عن هدى، لقد أصبحت امرأة مثل بقية النساء"، وقبل ذلك بصفحات فقط كان يقول "كنت أحفظ رسائل هدى، وأقبلها في الليل، كنت أضعها تحت رأسي مثل تميمة مقدسة"، انهارت علاقته وتركه زملاؤه لينفرد بحزنه: "لم يسألوا أكثر، ولم أتحدث، كنت أريد أن أتشرب العذاب على مهل، لكي أشعر بلذة الفقد وعذابه".

وتقدم الرواية كذلك صفحات عن التحقيقات، وهي مقترنة بالتعذيب أغلب الوقت، فنقرأ فيها "لما تعب من الشتائم أجلسنا على الأرض، وبدأ يخاطبنا بحذائه. وضع قدمه على رقبة إبراهيم من الخلف وداس بكل ثقله حتى وقف فوقه، وترك قدمه الأخرى تهتز في الهواء. أما عزيز الذي كان في بداية الصف، فقد دفعه بقوة فاصطدم بنا ثم انقلب على وجهه".

لكن الرواية لا تنقضي في وسط أوقات الألم وحفلات التعذيب فحسب، بل تعرض كذلك للحظات المقاومة والمتع الصغيرة المسروقة من ظلمات السجن، وحيل السجناء للحفاظ على أسرارهم "اتفقنا أن تُحرق الأوراق واحدة بعد أخرى. فإذا جاء الحرس أغرقناها في صفيحة البول، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي تمنع قراءتها".

تنتهي الرواية بوفاة رجب بعد أن نهشته أمراض السجن وخصوصاً روماتيزم الدم، ويلملم العمل أوراقه على صوت أخته "أنيسة" وهي تنعي أخيها (بطل الرواية)، وتبدأ رحلة البحث عن زوجها الذي قبض عليه بعد أن اتهم السلطات بقتل "رجب".
***
تركز بعض الروايات الأخرى على الوقائع داخل السجن، مثل رواية "برتقالات الرئيس"، ولكن روايات غيرها تركز أكثر على حياة السجين بعد خروجه، مثل "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم و"مجنون الأمل" للمغربي عبداللطيف اللعبي.

وتنبني روايات صنع الله إبراهيم وعباس خضر وعبداللطيف اللعبي على خبرة حقيقة، فقد أمضى إبراهيم سنوات طوال في سجون جمال عبد الناصر وأمضى خضر عامين في سجون صدام، بينما دفع اللعبي سنوات من عمره في سجون المملكة بالمغرب ثمناً لمعارضته النظام.

وقدم كل من اللعبي وصنع الله إبراهيم في روايتيهما مأساة اغتراب السجين السابق عن هذا العالم المغلف بالطمأنينة المفتعلة.

وعلى العكس من اللغة الشاعرية لرواية "مجنون الأمل" (كتبت بالفرنسية وصدرت بالعربية أول مرة عام 1990)، فإن صنع الله إبراهيم يقدم وصفاً للعالم ولمشاعره بحيادية شديدة وبلغة جافة مقتصدة جدّاً في أغلب الأحيان.

لكنه في رصده وتسجيله الوقائع اليومية تطارده ذكرياته السوداء المريرة عن السجن، كما يقدم في صفحات روايته القصيرة لمحات عن الانتهاك الجسدي والجنسي للقاصرين في أماكن الاحتجاز.

ويعمد صنع الله إبراهيم إلى استخدام لغة صادمة سواء في جفافها أو في وصفها للانتهاكات أو الوقائع الجنسية خلال العمل، وكأنه يحاول بروايته هذه أن يهز المجتمع الخامل.. أن يوقظه.. أن يكسر شرنقة الطمأنينة الكاذبة التي يختبأ داخلها الناس صامين آذاناهم عن معاناة السجناء السياسيين.

ولكن صاحب "تلك الرائحة" التي ألقاها كحجر في وجه بلادة المجتمع، والذي قضى سنوات من عمره في سجون نظام عسكري، انتهى الآن إلى الوقوف في صف نظام عسكري آخر يسجن الآلاف كذلك، وربما يمارس ضدهم من الانتهاكات مثل ما عانى منه صنع الله إبراهيم وأكثر.

*مصر

المساهمون