منظومة القمع والتضليل

08 يناير 2015
منظومة البروباغاندا كانت في مستوى متدنٍ قبل الربيع العربي(Getty)
+ الخط -

يعدّ الإعلام من الأسلحة الاستراتيجية التي تفوق في قوتها أي سلاح نووي، خصوصاً إذا ما علمنا أن الأسلحة النووية عبارة عن عضلات مربوطة تستخدم في إيجاد توازن الرعب بين الأنظمة العالمية، وهي مكابح في حقيقتها لأي قوى عالمية منافسة، بسبب أن تكلفة استخدامها وتداعياتها تفوق قدرة أي دولة.

في حين أن الإعلام قوة ناعمة يمكن استخدامها من دون أي مواربة أو تخوّف بحدها الأقصى، ولهذا يقول المفكّر الأميركي جوزيف ناي إن حائط برلين تمّ هدمه في نفوس شباب ألمانيا الشرقية قبل هدمه في الواقع نهاية الثمانينيات، من خلال منظومة الإعلام الأميركية التي ضربت بعمق في وجدان الشعوب الأوروبية، وتغلغلت إلى الشباب الاشتراكي الذي بات مأخوذاً بنمط الحياة الغربية.

ولم يغب تأثير هذه القوة الرهيبة التي تعدّ أداة هامة في إعادة صياغة الوعي الإنساني، ويمكنها تحويل الإنسان، عبر منظومة البروباغاندا، من حمل وديع إلى وحش مفترس يفوق ببشاعته أي ضوار أو كواسر تقطن الغابات والمستنقعات.

وصار الإعلام تهديداً جديداً للإنسانية يفوق بأسه بأس أقوى الزلازل والبراكين والمذنبات الهاطلة من السماء التي تسبّب أحدها في القضاء على أنواع حيّة من المخلوقات، كانت أعناقها تلامس السماء.

بات الإعلام وسيلة من وسائل سلب الإنسان لحريته، ما ينبئ بعبودية تتناسب مع القرن الحادي والعشرين، يقول المفكّر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش رحمه الله: (أصبح التلفزيون تهديداً للحرية الإنسانية. يهدّد بإقامة عبودية روحية من أسوأ الأنواع)، فوسائل الإعلام تعدّ من الأدوات الرئيسية التي تستخدمها الأنظمة المستبدّة، بشكلها السافر البشع، لمدّ نفوذها وسطوتها، فهي حينما تكون في وضع لا يسمح لها باستخدام قوتها الصلبة بشكل يفرضها على واقع الدولة والمجتمع، غالباً بسبب إرادة المجتمع وحراكه المؤثر، تلجأ إلى الإعلام، بصفته قوة ناعمة يمكنها أن تُعيد صياغة الوقائع والأحداث وفق رؤية المستبد، لتداعب بها خيالات الجمهور وعقله الجمعي الذي يتميّز بالسطحية والتفاهة، من خلال التضليل والتزييف وشيطنة قوى المجتمع المؤثرة.

ويمكن هنا استنتاج قاعدة بسيطة، وهي أن الأنظمة الشمولية تستخدم الإعلام كسلاح ناعم للتضليل، في الوقت الذي يكون للمجتمع إرادته الحرة التي تخرجه من سطوتها. وحينما لا يكون للمجتمع أي إرادة أو حراك حقيقي مؤثر، يقلّ منسوب التضليل المستخدم، بما يتناسب طردياً مع تلك الإرادة، فلا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين إلى آذانهم في بؤس الواقع.

وانطلاقاً من واقع هذه الفكرة التي تناقش العلاقة بين التضليل وحراك المجتمع المؤثّر، يمكن عمل إسقاط على الواقع في الكثير من دول الربيع العربي، فنلاحظ أن منظومة البروباغاندا وشيطنة قطاعات واسعة من المجتمعات العربية، وعلى رأسها الإسلاميون، كانت في مستوى متدنٍ قبل الربيع العربي، والسبب في ذلك يعود إلى أن حركة الشارع العربية لم تكن مؤثرة، ولم تكن قادرة على إحداث خرق في المنظومة السائدة آنذاك، وما إن تحوّل الحراك إلى شرارة حارقة وحاسمة، ابتدأت في تونس وامتدّ لهيبها إلى اليمن، حتى تحرّكت المنظومات الإعلامية الناطقة باسم الأنظمة بطاقتها القصوى في محاولة لتضليل الجماهير، صحيح أنها لم تكن مؤثرة أثناء الحراك الناشط الذي دخل التأثير فيه إلى حيز آخر هو تأثير المحركين الفاعلين في الشارع، ولكن بعد أن هدأت الأمور، وظنّ الجميع أن تلك الحقبة انتهت، كانت تلك القنوات تعمل بقوة، وتستخدم كل أدواتها ووسائلها لمحاولة تزييف الوعي، وقد تم ذلك فعلياً.

وهذا يعني أن أي تغيير يمكن أن يحدث في المستقبل لا بدّ أن يسبقه ضخّ إعلامي قادر على صناعة وعي حقيقي، والتصدّي لعمليات التزييف الممنهجة، لأنه طالما كانت الجماهير متهيئة للتحرك من جديد ستكون آلة البروباغاندا حاضرة بقوة.


*البحرين

المساهمون