وهن الرمز والأيقونة

14 يناير 2015
لا حلول وسط في عقلنا الجمعي (Getty)
+ الخط -

حينما ألّف مايكل هارت كتابه المميّز "المئة.. تقويم لأعظم الناس أثراً في التاريخ"، ذكر أن المراجع التاريخية في مختلف أمم العالم وحضاراتها خلّدت ما يقرب من 20 ألف شخصية ساهمت في صياغة مجرى التاريخ اﻹنساني ونقله نقلات نوعية، وقد اختار منهم مئة وجد أنهم الأكثر تأثيراً لأسباب موضوعية من أجل عرضهم في كتابه، غالبهم كانوا قدوات وملهمين في مجتمعاتهم ومؤثرين عليها بشكل عميق، رغم أن بعضاً منهم كان دموياً مرعباً، مثل جنكيز خان والإسكندر المقدوني والزعيم النازي هتلر.

احتاج هؤلاء العظماء كي يسطع نجمهم ويكونوا مؤثرين إلى عقود عجاف مرهقة، وربما لم يسطع نجم الكثير منهم إلا بعد الوفاة بسنوات، بعد أن عرف العالم مدى تأثيرهم من خلال إنتاجاتهم الفكرية والثقافية أو العلمية التطبيقية أو العسكرية الحربية.

ومنذ تاريخ تأليف الكتاب ولغاية اليوم حصلت العديد من التغيّرات والتحولات على مستوى الملهمين والمؤثرين، خصوصاً مع ثورة الاتصالات وظهور التلفزيون والإنترنت، فقد تمكنت الشاشة الفضية من إبراز وصناعة نجوم تشرئبّ إليهم الأعناق، وتتجه الأبصار، وتُشدّ إلى لقاءاتهم وحفلاتهم الرِحال.

إلا أن الملفت للنظر أن العملية لم تعد تستغرق أجيالاً، بل صارت لا تتجاوز الأيام أو الأسابيع في أقصى تقدير، فيكفي أن يشارك شخص مغمور، لا يُعرف ولم يُسمع به قط في برنامج مسابقات ترفيهية، حتى يتحول إلى نجم وقدوة، وفي حالات أخرى يكفي أن يقدم شخص ما برنامجاً تلفزيونياً سياسياً أو شبابياً أو دينياً ناجحاً حتى يصبح في عداد المؤثرين على الساحة، الذين يصنعون الوعي أو يزيفونه، يرتقون به أو يهوون به في قعر سحيق، رغم تواضع مستواهم الفكري والثقافي، ما يعني أن الوهن وضحالة الرؤية سيكون شعار المرحلة. هذا المأزق يمكن ملاحظته من خلال الضجة التي تثار من حين إلى آخر وتتناول المشاهير، فتُسلّط الأضواء على منجزاتهم أو عثراتهم، وأحياناً على جوانب تافهة من حياتهم الشخصية!

وتحصل سجالات بين مؤيدين ومعارضين لهم، الفكرة الرئيسية التي ينطلق منها كثير من المؤيدين هي: "الرمز" الذي يفترض به أن يكون مقدساً منزّهاً عن الخطأ والخطيئة، أن يكون أيقونة إلهية، فمَن يعبدها لا يمكن أن يقبل أن تُذم أو يُنتقص من قيمتها، أما مَن يعارض شخصية الرمز لأي سبب كان، فهو يبحث عن وسيلة لينال منه، وهذا حال العقل الجمعي الذي يتميّز بنظرته السطحية ومقارباته السخيفة لكل مناحي الحياة. فنحن في العادة إما أن نقبل الشخص الرمز بكل ما فيه من عيوب أو نرفضه بكل ما فيه من حسنات. لا حلول وسط في عقلنا الجمعي. المفاصلة هي المقصلة التي يسقط فيها تفكيرنا غير المنطقي ولو تشدقنا بموضوعيتنا ومصداقيتنا ونزاهتنا ونظرتنا الخارقة للأفق!

وإن كنا مؤدلجين مؤمنين حتى الثمالة بمبادئ ما، فإن نظرتنا للحياة ستكون منطلقة من منطلقات أيقونة الرمز ذاتها، حيث إن قبولنا أو رفضنا لرمز ما يعتمد على حجم تبنيه لأيديولوجيتنا، فإن ظهر منه ما يدعمها رفعناه إلى عنان السماء، وإن عارض بعض ما نؤمن به قذفناه إلى أقصى الأرض في بقعة هابطة قريبة من جهنم.

وهذا بحد ذاته يجعلنا ندرك حجم الخلل والمأزق الذي تعيشه مجتمعاتنا بسبب غياب البديل الهادف من اﻹعلام ذي الصبغة اﻷخلاقية البنّاءة الذي يتحمّل مسؤولية عرض وصناعة النجوم من المفكرين والمثقفين والعلماء في شتى المعارف ممّن يشكلون زخماً معرفياً وثقافياً حقيقياً يتحولون من خلاله إلى بوصلة مجتمعية تشير إلى اتجاهات الرقيّ والتحضّر.

إن تناول أخبار المشاهير ومغامراتهم أو عثراتهم ما هو إلا نوع من الإلهاء والتشتيت الذي لا يخرج عن كونه علماً لا ينفع وجهلاً لا يضرّ، وحريّ بنا أن نتعامل معه وفق ظاهرة آلاف البيانات والمعلومات التي نتلقاها يومياً ثم نتجاهلها لأي سبب كان، فالحياة أقصر من أن تضيع في هذا التشظي.


*البحرين

المساهمون