الحرب وقد صارت تحصيل حاصل

24 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

قبل نحو شهرين وأزيد، تسوّد بياضُ هذه الزاوية الأسبوعية بتقدير موقفٍ قوامه (بإيجاز) أنّ الحرب على الحدود اللبنانية المشتعلة بوتيرة متصاعدة باتت أمراً حتمياً لا رادّ له، وأنّ المسألة مسألة وقت قد لا يكون طويلاً، حتّى وإنّ واصلت الأطراف المعنية بها لعبة الانكار وتقطيع الوقت، إدراكاً من المراقب لرغبة إسرائيلية جامحة في إيقاف حرب استنزاف مديدة ومُكلفة، وحاجتها لإعادة نحو مائة ألف مستوطن مُهجّر إلى مستعمراتهم، ناهيك عن تحقيق أهدافٍ أخرى بعيدة المدى، في مقدّمتها كسر حالة توازن الرعب واستعادة الردع، وإنهاء سابقة قيام أول منطقة عازلة، نشأت بعد "طوفان الأقصى"، ليس داخل أراضي العدو هذه المرّة.
اليوم، وبعد أن نقل الاحتلال مركز ثقل عملياته الحربية من قطاع غزّة إلى الحدود اللبنانية، وراح يرفع درجة حرارة هذه الجبهة الساخنة أصلاً، بقوّة نار تدريجية مضاعفة، تسارعت وتيرتها بشدة، وبلغت ذروتها في ضاحية بيروت الجنوبية، صارت الحرب الشاملة أو الإقليمية أو الواسعة، مُجرَّد تحصيل حاصل، إن لم نقل إنّها واقعة بالفعل منذ مدّة، جرّاء وضع حزب الله في موقف تحدٍّ لا قبل له على ردّه، وفق ما ظلّ يشير إليه خطاب الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، طوال نحو سنة، دفع خلالها لبنان أثماناً باهظةً، الأمر الذي جعل الاستجابة الحتمية لتحدي الحرب أمراً لا مناص منه، وإلا فإنّ استحقاقات الثمن السياسي والأخلاقي والمعنوي والاجتماعي، ستكون أعلى بكثير من كلفة أيّ مواجهة لا مفرّ منها.
كان تقدير الموقف، في حينه، أنّ لكلّ حرب منطقها الخاص بها، وأنّ لدى كلّ مواجهة ديناميتها الذاتية المُتفرِّدة، سيرورتها ومخاضها، وفوق ذلك خطابها، وليست كلّ الحروب تقع دائماً بتخطيط مسبق، ولا تنشب جميعها عن سابق إصرار وتعمّد، لكنّها تحدث في الواقع، تخرج عن السيطرة، تتوسّع وتتصاعد على نحو مفاجئ، رغم إعلان جانبيها أنّ لا رغبةَ لهما في الاشتباك، فيما يواصلان، في الوقت ذاته، الاستعداد لها على قدم وساق، في السرّ والعلن، انطلاقاً من إدراكٍ مُتبادَلٍ لحقيقة أنّ الهوَّة بينهما عميقة، وأنّ التسويات والحلول الوسط شبه معدومة، وبالتالي فإنّ الواقعة المُؤجَّلة واقعةٌ لا محالة، تماماً على نحو ما ظلّت تلهج به ألسنة الجنرالات، وتشي به المُلاسنات والمعارك الدائرة في البرّ والجوّ.
في نهاية المطاف، لم تستطع الأطراف المعنية بسؤال الحرب كبح جماح نفسها، وتجنّب الوقوع في غواية الحرب الواسعة، سيّما أنّ دولة الاحتلال المُتحفِّزة للانتقام ولردّ الاعتبار الضائع، منذ أن فقدت هيبتها، وانكسر أنفها قبل سنة ثقيلة الوطأة، باتت تقف أمام خياراتٍ استراتيجية، تتراوح بين صعبةٍ وصعبةٍ جدّاً ومستحيلةٍ، سواء تعلّق الأمر بصفقة تبادل الأسرى، أو بالاستمرار في حرب استنفدت أغراضها في غزّة، أو اتّصل الأمر بفتح جبهة جديدة، قد تطول كثيراً وغير مضمونة النتائج، وباهظة الكلفة من الجوانب كلّها، وهذه هي بعينها أمّ الخيارات المستحيلة.
اليوم، وبعد أن واصلت دولة الاحتلال جنونها المُفرط، وعبرت الخطوط الحمراء، وبالغت في عربدتها، حقّقت التوقّعات المتشائمة نفسها بنفسها، وثبّتت الرؤية المُتعلِّقة بحتمية الحرب، التي ظلّت في جدول أعمال الدولة المأزومة، لكنّها كانت مُؤجّلةً، لأسباب لها علاقة بتحاشي مخاطر الحرب على جبهتَين، وفي حالة جيش مُثخَنٍ ومجتمعٍ مُتعَبٍ ودولةٍ منقسمةٍ على ذاتها، ناهيك عن جملة طويلة من العوامل الذاتية والموضوعية، الأمر الذي يمكن الافتراض معه أنّ الذئاب الجريحة، التي أسكرتها سلسلة من النجاحات التكتيكية ضدّ حزب الله، وقعت مُجدَّداً في حبائل غواية القوّة، اعتماداً على سلاح جوّ لم يتمكّن ذات مرّة من حسم معركة.
بعد سلسلة الاعتداءات على لبنان أخيراً، بات كلُّ طرف أسيرَ صورته وسرديته وخطابه ورؤيته لذاته، ومن ثمّ صارت الحرب مُجرَّد تحصيل حاصل، سيّما أنّ قيادة الحزب المساند غزّة ليست في وارد تحطيم سمعتها، أو كسر صورتها وتبديد ما استثمرت فيه من صبر ودم وموارد طائلة، لتعزيز حضورها، وخلق أفضل الانطباعات عنها. كما يمكن الافتراض في المقابل أنّ دولة الاحتلال، المُفعمَة بمشاعر الغرور والغطرسة، لا تستطيع العيش تحت وطأة خطر مصيري دائم، أوقف الهجرة من الخارج، وسرّع وتائرها العكسية من الداخل، وزعزع أركان الدولة والجيش والمجتمع، الأمر الذي جعل من المعقول للغاية، الاستنتاج، أنّ إسرائيل قد وجدت نفسها مُكرَهةً على خوض "حرب اللامفرّ" هذه.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي