نسمة الفرّا وسامر الآغا: كانت تملك أجمل أصابع في العالم (4)

26 سبتمبر 2024
أفراد عائلة يبكون شهداءهم في مجمع ناصر الطبي (بشار طالب/فرانس برس)
+ الخط -

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة. قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر. هذهِ الشهاداتِ التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".

كنتُ أجلسُ مقابلةً لهما، آلةُ تسجيلٍ في متناول يدي مع ورقةٍ وقلم، ورأسي مليءٌ بعلامات الاستفهام! طمأنينةٌ ما كانتْ هناك، ملامحهما معًا بدتْ وكأنَّها -منذُ الأزل- كانت مدرَّبةً على إخفاءِ الألم. في المكانِ غيمةٌ تفيضُ بالسّكينة. علاماتُ الاستفهام اختفتْ تمامًا من رأسي، كلماتٌ قليلةٌ كانت كافيةً لأبعد عنِّي الورقة والقلم، كان طرحُ الأسئلةِ في هذا السِّياقِ كمن ينزلُ من قمَّةِ الجبلِ بدرَّاجةٍ بلا فرامل، بقيتُ مشدوهةً أمام قدرةِ النَّفس البشريَّة على التَّمسُّكِ بالكرامة، حتَّى ولو بعدَ مجزرة. بوجهٍ مفعمٍ بالسكينة، وبصوتٍ ملتبسٍ بين الرِّضا والبكاءِ بدأتْ أمُّ يحيى الكلام: 
أنا نسمة الفرَّا، أمُّ يحيى، زوجي من عائلةِ الآغا، عمري واحدٌ وأربعون عامًا، نحنُ من غزَّةَ، - تحديدًا - من خانيونس. أعملُ موظَّفةً إداريَّةً في جامعة الأقصى. في ذلك السَّبتِ من شهر أكتوبر، كنتُ أجهزُ الفطورَ لأولادي عندما سمعنا صوتَ القصفِ. يحيى، ابني يبلغُ من العمر إحدى عشرة سنةً، كان يتهيَّأ للذَّهاب إلى المدرسةِ، لكن بعد سماعِ صوتِ القصفِ بقي في البيتِ، لم نتركهُ يذهبُ، كلُّ الأطفالِ في غزَّة بقوا في بيوتهم أيضًا ولم يذهبوا لمدارسهم. الجميعُ في غزَّة كانوا في حالةِ خوفٍ وترقُّب. فهمنا من أصواتِ الصَّواريخ ومن الأخبارِ الواردةِ من الشَّارعِ أنَّ المقاومة هاجمت إسرائيل بطريقةٍ لم تحصلْ من قبل! كنت خائفةً جدًّا وأدركت أنَّ هذه المرَّة لن تكونَ كما الحروبِ السَّابقة. 
كنَّا نتوقَّعُ القصفَ، في الحقيقة كنَّا ننتظرهُ! وهذا ما منعني من النَّوم حتَّى الفجرِ في اللَّيالي التَّالية، كنتُ أخافُ أن يقصفونا ونحنُ نيامٌ، هل تتخيَّلينَ الرُّعبَ! تحاولينَ النَّوم وأنتِ تنظرينَ للسَّقفِ ولا تعلمينَ متى سيسقطُ عليكِ. سألني زوجي صباحَ العاشرِ من أكتوبر عمَّا نحتاجه من طعام، كانَ يتهيَّأُ للذَّهاب لعملِهِ في وزارةِ الأوقاف، طلبَ يحيى الذَّهاب مع أبيه، لكنَّه - زوجي - لم يقبل. كنَّا نخافُ على أبنائنا الخروجَ للشَّارعِ لأنَّنا كنَّا نتوقَّع القصفَ. تسألين لماذا لم نخرج من بيوتنا! إلى أين؟ لقد كانت غزَّةُ كلُّها تنتظرُ القصفَ. 
لديَّ خمسةُ أولادٍ: يحيى وسارة وسما ولمى ولين. يحيى هو الصَّبيُّ الوحيدُ، كنَّا جميعًا معًا. لينُ الصَّغيرة، ابنة الثَّماني سنوات، قالت: ماما أنا جوعانة، وطلبتْ مني سندويشة، نهضتُ معها إلى المطبخِ، لحقني يحيى وطلبَ أن يأخذَ هاتفي، ثمَّ اتَّجهَ إلى الصَّالون. في تلك الثَّواني الَّتي اتَّجهَ فيها يحيى إلى الصَّالون، تغيَّرتْ حياتنا إلى الأبد. 

كنتُ أسمعُ صوتي وكأنَّني لست أنا الَّذي يصرخُ، كأنَّ أحدًا غيري يبحثُ عن أبنائِهِ أمامي، لم أكنْ في كاملِ وعيي أبدًا

صمتتْ أمُّ يحيى، كانتْ تنظرُ للأسفلِ وكأنَّها تحاولُ أن تجيبَ سؤالًا خطرَ ببالها فجأةً. بحنانٍ يراقبها أبو يحيى كما يستطيعُ أنْ يفعلَ أبٌ يثقُ بقدرةِ طفلِهِ على المشي وحيدًا، التقتْ نظراتهم للحظةٍ، ثمَّ وبصوتٍ أكثر طمأنينةً، تابعتْ كلامَها: 
فجأةً وجدتُ نفسيَ غارقةً بالغبارِ الأسود والدُّخانِ، لم يستطعْ عقلي في البدايةِ تفسيرَ ما يحدث، لم أسمع القصفَ حتَّى! كنتُ أصرخُ وأصيحُ بأسماءِ أولادي، وكأنَّني في حلمٍ. في كابوس، كنتُ أسمعُ صوتي وكأنَّني لست أنا الَّذي يصرخُ، كأنَّ أحدًا غيري يبحثُ عن أبنائِهِ أمامي، لم أكنْ في كاملِ وعيي أبدًا. ولمْ أكنْ أرى شيئًا بسبب الدُّخان، يا لين . .! كنت أصرخُ باسم لين، وجدُّتها قربي، حملتُها وأردتُ الخروج، لكنَّ النَّار هبَّت في وجهي، رجعتُ للمطبخِ، كان الصَّاروخ هناك ما يزالُ يحترقُ، نارٌ رهيبةٌ. أدركتُ أنَّهم قد قصفونا بصواريخ وبراميل متفجِّرةٍ! انطفأت النَّارُ؛ ركضتُ وركضتُ وكان الرَّدمُ يحيطُ بي. البيتُ تهدَّم بالكاملِ ولا أستطيعُ الرُّؤية. أردتُ أن أُخرجَ لين من الرَّدم وأبحثَ عن إخوتها، وجدتُ الدَّرجَ قد تهدمَ، ولا أستطيعُ النُّزولَ والخروجَ بابنتي. كنَّا نسكنُ في الطَّابقِ الثَّاني. نظرتُ حولي، كان الدَّمارُ يحيطُ بنا، بيت عمّ زوجي بالكاملِ مسوّىً بالأرض، حارتُنا كلُّها سُوِّيت بالأرض، وكنتُ أنادي على أبنائي، وأرى أشلاءَ النَّاسِ متناثرةً حولي وأنا مُعلَّقةٌ بالطَّابقِ الثَّاني وبيدي ابنتي ذاتُ السَّنوات الثَّماني. 
جاءَ شابٌّ وأخذَ لين مني ونزلَ بها، كانَ قد تجمَّعَ بضعةُ شبابٍ حولَ الرُّكام. رفضتُ النُّزول لأنِّي أريدُ إيجادَ أولاديَ الآخرين؛ سارة ولمى وسما ويحيى. عثرتُ على سارة، كان وجهها محروقًا بالكاملِ ويداها أيضًا، كانت تمشي أمامي بحروقها، تمشي وتتقدَّم، أذكر أنَّني كنتُ أصرخُ، لقد كنتُ أصرخُ ولا أعرفُ إن كانَ صوتي يخرجُ من حلقي: يا سارة ! أين أختك؟ أين سما، تعالي! كانَ مشهدًا غريبًا، كانَ جسدُها محروقًا، لكنَّها كانت تمشي، تمشي وتتألَّمُ، تمشي وترفضُ مساعدة الآخرين، تنظرُ حولها مشدوهةً وتتقدَّم، ثمَّ نزلت سحلاً على الدَّرج، كانت أمامَ عينيَ تتألَّم بصمتٍ، كان قلبي ينفطرُ، أعرفُ كمْ هيَ ابنتي عنيدةٌ! لقد نزلَت سحلاً فوق الرُّكامِ وهي ترفضُ المساعدةَ. صرت أنادي على أولاديَ الآخرين، أصرخُ وأصرخ يا سما، يا يحيى! وأخيرًا ردَّت عليّ لمى، كانت تحتَ الرَّدم، تحتَ الجدران، حاولتُ أن أرفعَ الجدارَ بيدي، لم أستطعْ. أخذتُ أخمشهُ بأصابعي. 
ظهرَ زوجيّ، كان يصرخ مثلي بأسماء الأولاد، رأيته يحمل سما بين يديِه، لم أستوعب، كانت ابنتاي التَّوأمتان ابنتا الخمس عشرة سنةً أمامي، واحدةٌ تمشي محروقةً لا تفهم ما يجري حولها والثَّانية جثَّةٌ هامدةٌ بين يدي أبيها، لقد سقط الرَّدم كلُّه فوق غرفةِ الأولاد. نزل زوجي بسما وطلبوا منِّي أن أنزل، فرفضتُ. في الطَّابقِ الأوَّل من البناء كان هناك أطفالٌ ينتشلونهم من تحتِ الأنقاضِ والرَّدم. عاد زوجي مع أبيه وبدأا يحفران الرَّدم، وجدا يحيى في البداية، ثمَّ أخرجا لمى وذهبا بهما إلى المستشفى. يحيى مات بنزيفٍ داخليٍّ بعد ساعاتٍ في مشفى ناصر بخان يونس، وبُترت ساق لمى في اليومِ التَّالي. 
الحمد للَّه؛ قالت أمُّ يحيى وهي تلتفتُ نحوي. إنَّ الهروب من فكرةِ أنَّ يدًا إلهيَّةً هي الَّتي كتبت على هذه العائلة كلَّ هذه الأهوال ستجعل الحياة مرعبةً وغير محتملةٍ إلى الأبد، لذلك كانوا مستسلمين تمامًا للقدر، إنَّهم يدركون كلّ الإدراك بأنَّهم بعيدون عن أيِّ مساندةٍ جدِّيَّةٍ في هذا العالم. كنتُ غارقةً في خيالاتٍ مرعبةٍ عن الأطفالِ المحروقين، لكنَّ صوتَ أمِّ يحيى أخرجني من هناك وأعادني لمقعدي:
في البدايةِ لمْ يميّزوا ابنتي لمى عنْ سما، أخطأوا عند التّعرفِ على الجثثِ. أخي كانَ يعملُ في المشفى الأوروبيِّ في غزّةَ، لكنّهُ جاءَ إلى مشفى ناصر، جاؤوا بحماتي كيْ تتعرفَ على ابنتي. لماذا لمْ يستطيعوا التّعرفَ عليها فوراً! كيف! عندما أخذوا ابنتي لمى إلى العنايةِ المشددّةِ، كانَ رأسُها مفتوحاً إلى منتصفِ الجبينِ، احتاجتْ ثلاثينَ غرزةً منْ أعلى العينِ إلى منتصفِ الجبينِ، وكانَ هناكَ جرحٌ كبيرٌ في يدها. وكانتْ بحاجةٍ لدمٍ كثيرٍ، حاولَ الطبيبُ إنقاذَ رجلها المصابة، بقيتْ في العمليةِ لساعاتٍ. أثناءَ ذلكَ كانوا يدفنونَ ابنتي الأخرى. دفنوها السّاعةَ السّادسة صباحاً. 

نازحون وخيام في محيط جامعة الأقصى (حسن جيدي/الأناضول)
نازحون وخيام في محيط جامعة الأقصى (حسن جيدي/ الأناضول)

في بيتِ عمِّ زوجي، تسعةُ شهداءَ. لم ينتشلوهمْ كاملين، تحولوا إلى أشلاءٍ مقطعة، دفنوهمْ في أكياسٍ. دفنوا يحيى، ثمّ جعلوني أرى الفيديو ولمْ أستطعْ التّحركَ منْ المشفى. لاحقاً ماتتْ أمّي في المشفى ذاتهِ بعدَ أنْ حاصروهُ، أمّي مصابةٌ بالفشلِ الكلويِّ، وكانتْ بحاجةٍ لعمليّةِ غسلٍ للدمِ. كنتُ عاجزةً عنْ التّصديقِ، دُفن ابني يحيى بعدَ ابنتي سما. دُفن اثنانِ منْ أولادي، ولمْ أكنْ حاضرةً، كانَ هذا يمر بسرعةٍ شديدةٍ وكنتُ معَ اثنتينِ أُخريينِ مصابتين. 
أذكرُ أنَّ أخي قالَ: إن لمْ نبترْ رجلَ لمى فسوفَ تموتُ، هلْ تريدينَ أنْ تموتَ ابنتك؟ يجبُ بترُ رجلها! في اليومِ التالي بُترتْ رجل لمى، كانتْ ستتسمّمُ لوْ لمْ يفعلوا ذلكَ. سألتهمْ أينَ رجلُ ابنتي؟ قالوا: دفنّاها، دفنوها في أيِّ مكانٍ؟ معَ بقيةِ الأعضاءِ المبتورةِ الأخرى! بعدَ ذلكَ جاءَ زوجُ أختي وانتشلَ رجلها، ثمَ دفنها بجانبِ قبرِ يحيى وسما، - على الأقلِ - تبقى معَ إخوتها. سارة ابنتي المحروقة لا تريدُ الحديثَ عنْ أختها التوأم التي ماتتْ. هيَ صامتةٌ تماماً وترفضُ الحديثَ، حرقها من الدّرجةِ الأولى. 
لا أعرفُ كيفَ أروي التفاصيلِ بأكملها، فقدَ بدا الأمرُ وكأنّنا دخلنا الجحيم. لنفترضْ أنّهمْ أرادوا ضرب المقاومةِ، لكنّنا كنّا مدنيينَ، أطفالاً ونساءً وعجائزَ، فهلْ يستحقُّ الأمرُ أنْ يبادَ هذا العدد من الأرواحِ البريئةِ؟ لمْ أفهمْ ذلكَ. كنت حينها في مستشفى ناصر في قسمِ الحروقِ معَ سارة وابنتي الأخرى التي كانتْ في العنايةِ المشدّدةِ، وجهها مشقوقٌ ورجلها مبتورةٌ. بقيتُ في المستشفى خمسةً وعشرينَ يوماً، وأثناءَ وجودنا هناكَ، كانوا يقصفونَ، لم نغادر المستشفى، أنا وزوجي والمرضى، كانت العائلةُ تزورنا، سمحوا لنا بالبقاءِ لأنَّ بيتنا تهدّمَ. 
كانَ القصفُ بجانبِ مستشفى ناصر مستمراً لليلتينِ متواصلتينِ. رأيتهمْ يقصفونَ، هناكَ بيتٌ واحدٌ قصفوهُ أكثرَ منْ ثلاثينَ مرّةً بالصّواريخِ! أثناءَ القصفِ، كانَ الزّجاجُ يتساقطُ، زجاجُ نوافذِ المستشفى لقدْ كانَ القصفُ قريباً جداً. كنّا أحياناً نضطرُ إلى حملِ الجرحى وهمْ في الأسرّةِ للخروجِ من المستشفى، والصواريخُ تنهالُ حولنا من كلّ صوب. كانَ الممرُّ ممتلئاً بالنازحينَ أيضاً، المستشفى يضمُّ النازحينَ والأطبّاءَ والمرضى وعوائلهمْ، البشرُ ينحشرونَ في الممرِّ، كانَ أمراً فظيعاً. كانَ هناكَ الكثيرُ من الأطفالِ المحروقينَ بالفوسفور، كانَ معنا طفلتانِ منْ عائلةِ زنونْ، ليال وعبلة زنونْ، وجوههمْ محروقةٌ بالفوسفور. 

دفنوا يحيى، ثمّ جعلوني أرى الفيديو ولمْ أستطعْ التّحركَ منْ المشفى. لاحقاً ماتتْ أمّي في المشفى ذاتهِ بعدَ أنْ حاصروهُ

أصعب شيءٍ هوَ رؤيةُ ابنتي كيفَ نزلتْ على الدرجِ وسطَ الركامِ، كيفَ زحفتْ، كيفَ لمْ تستطعْ البكاءَ، كيفَ كانوا يغيّرونَ جروحها وتصرخُ! صراخها في أذني! كانتْ لا تقبلُ أنْ يغيروا جراحها إلّا وأنا موجودةٌ، كنت غير قادرةٍ على رؤيةِ جراحها وهيَ كانتْ لا تريدُ أنْ يكونَ معها سوى أمّها. من الصعب وصف مشاعري، لا أستطيعُ! بقيت عاجزةً عن الفهمِ بعدَ كلِّ ما حصلَ ورغمَ مرورِ الوقتِ! كانتْ ابنتي مرميّةً على الأرضِ، ما تزالُ صورتها في رأسي. نزحنا كثيراً، مرّة منْ بيتنا إلى المستشفى، ومنْ المستشفى إلى بيت أهلي في خانِ يونس البلد، ثمّ نزحنا إلى المواصي حيثُ أمرنا الجيشُ الإسرائيليُّ أنْ نذهبَ إلى هناكَ، بقينا في المواصي لخمسةِ أيامٍ ثمّ خرجنا، طوالَ الوقتِ كانوا يقصفوننا.
صمتتْ أمُّ يحيى، هزّت رأسها وكأنّها تؤكّدُ لنفسها ما قالتْهُ، تلاقتْ عيناها مع عيني زوجِها، كانا يتقاسمان عبءَ الرواية بصلابةٍ أمامَ الدموع وكأنّهما متفقان أنّ البكاءَ شيءٌ خاصّ جداً، شيءٌ حميميٌّ، لا يجوزُ للغرباء الانتباه إليهِ. لم يطل الصمتُ طويلاً حتّى قطعهُ أبو يحيى:
أنا أبو يحيى، سامر الآغا، زوجتي وأنا نريدُ أن يعرفَ العالمُ، أنّها إبادةٌ، لن ننسى، لن يستطيع أحدٌ أن يجعلنا ننسى. ابنيَ يحيى كانَ عمرهُ إحدى عشرةَ سنةً عندما راح مني، قتلهُ الإسرائيليون، هو ابني الوحيدُ بين أربع بناتٍ، يحيى وحيدي ووحيدُ أمِّه، كان وجوده نعمةَ حياتنا، كان ابناً مميّزاً. "كلّهُم مميزون!- قاطعتْهُ زوجتُه- أنا لا أميّز بين البناتِ والصبيان، كانوا مثل بعضهم".
هزّ أبو يحيى رأسَه موافقاً: كان يحيى لاعبَ كرة قدمٍ في نادٍ رياضيّ، أصدقاؤُه ما يزالونَ يتواصلون معي، قبلَ الحرب بيومٍ واحدٍ كان قد حصلَ على بطولةٍ رياضيّة. نحنُ في غزّةَ محاصرون منذ عامِ الألفين، منذُ الانتفاضةِ الثانيةِ وليس منذ سبعَ عشرةَ سنةً كما يقال. لقد ازدادَ الحصارُ توحّشاً فيما بعد؛ هذا صحيحٌ، لكنّنا محاصرون منذ تلك الانتفاضةِ. عندما كنّا نذهبُ إلى الجامعة أذكرُ جيداً كيفَ كانت الحواجزُ موجودةً، كانوا يغلقون الطرقات بلا سببٍ، كنّا سجناءَ، لم نكن نستطيع الذهاب يوميًّا إلى الجامعة، هذا كان يحصلُ في غزّةَ قبلَ حكمِ حماس، منْ أيامِ أبو عمار. نحنُ نعيشُ في سجنٍ كبيرٍ منذُ رُبعِ قرنٍ، حاجز أبو هولة ما يزال في رأسي، أنا لا أنساهُ. لكن ازدادَ الحصارُ في عهدِ حماس، هذا صحيح، لقد تحوّلت غزّة إلى سجنٍ كبيرٍ منذ ذلك الوقتِ، خاصّةً بعدَ خطفِ الجنديّ الإسرائيليِّ شاليط.
الحربُ الأولى على غزّةَ زمنَ حماس كانت في عام ألفينِ وثمانية، أذكرُ أنّها بدأتْ أثناءَ ذهابِ الأطفال إلى المدارسَ في التاسعةِ صباحًا. استهدفَ الإسرائيليّون في البداية مواقعَ عسكريّة، نعمْ، لقد قتلُوا الكثيرَ من مقاتلي حماس وقتها، ثمَّ شرعُوا بقتلِ المدنييّن. في حربِ عام ألفين واثني عشر، بدأَ الإسرائيليّون يبعثون برسائلَ تطلبُ منّا إخلاءَ البيوتِ تمهيداً لقصفها، كانُوا يقصفونَها بعدَ دقائقَ أو بعد ساعاتٍ وأيام، وأحياناً لا يقصفون، وأحياناً أخرى كانُوا يهدمونَ البيوتَ فوق رؤوسِ سكّانها دون أيِّ تحذيرٍ، لقد كانت حرباً نفسيَّة، كنّا نعيشُ مثل الفئران، عشْنا أعمارَنا تحت التوتر والخوف، ثمّ صار الناسُ لا يغادرون بيوتهم؛ فليقتلونا هنا! أين نذهب! جارُنا من دارِ الأسطل بقيَ في بيته ولم يغادرْ وكأنّه يقولُ لهم اقتلونا وخلص.
وُلد يحيى عامَ ألفينِ وثلاثةَ عشر، كان الإسرائيليّونَ قد اغتالُوا أحدَ قادة حماس -محمود الجعبري- في الشّيخ رضوان ثمّ كانتْ حرباً. بدأتْ الحياةُ تسوءُ، استمرّتْ تلك الحربُ واحداً وخمسينَ يوماً، كانت في رمضان. قصفٌ مدفعيٌّ عنيفٌ استهدفنا، لم يبدأ الموتُ الآن، إنّنا نموتُ منذُ زمنٍ طويلٍ! أصبحتْ فكرةُ الموتِ اللحظيِّ أقربَ فأقربَ، لقد عشْنا أعمارَنا نازحينَ تقريبًا، نأتي بحاجيّاتنا خَطفًا، قلقينَ دائماً على أهلِنا وعلى أولادِنا، مجرّدُ الحركةِ خارجَ البيتَ يعني قلقاً مستمراً؛ نشتري الأغراضَ من السّوقِ خائفين، نخافُ الصّعودَ في السّيارةِ، نخافُ النّزولَ منها، نخافُ المشيَ، نخافُ الوقوفَ، لقد كانت حياتُنا خوفاً مستمراً. في زمنِ الهدنِ القصير بين الحروبِ كنّا نخرجُ قليلاً، كبرْنا هكذا! تزوجْنا هكذا! وأنجبنا أطفالنا هكذا!
استَمرت الحروبُ بعد ذلك لكنّها لا تقاسُ بما يحصلُ الآنَ، هذه إبادةٌ وليست حرباً. الحربُ تعني أنّ جيشيْنِ يتقاتلان، هنا لا يُمكنُ المقارنة، حماس قامت بهجومٍ، ثمّ بدأَ الإسرائيليونَ يقتلون الجميع، الرجالُ والنساءُ والأطفال، لا يوجدُ جيشٌ عندنا، العالمُ تخلّى عنّا، لم يتحركْ أحدٌ. المقاومةُ ليست حماسَ فقط، هناك تنظيماتٌ غيرُها تقاومُ، هذا نقاشٌ لا أريدُ الخوضَ فيه.
أنا مفتشُ مساجد –والحمدلله- إحدى المرّاتِ، سألنِي أحدُهم قبلَ ولادةِ ابنتي لين، كمْ عندك أولادٌ؟ قلْتُ أربعة، قالَ: اللّهم اجعلْهم من الشّهداءِ، قلْت له: ادعُ لهم دعوةً أخرى! أنا أريدُ لابنيَ أنْ يكبُرَ، أنْ يصيرَ طبيبًا أو مهندسًا. نحنُ نريدُ لأبنائنا أنْ يكبُروا، المحزنُ أنّنا تُركنا وحْدنا، لقد تركنا الجميعُ، وهذا أمرٌ ليسَ بجديدٍ، هذا يحصلُ منذ أكثرَ من سبعينَ سنةً!
في السّاعةِ السّادسةِ وعشرينَ دقيقةً صباحَ يومِ السّابعِ من أكتوبر، كان يَحيى ذاهباً إلى امتحانِه، لكنّهُ رجعَ إلى البيت وكان قد نسي مَطَرةَ الماء، ولم تلبثْ أنْ انفجرَت الدنيا حولَنا، كانت الصواريخُ تخرجُ من غزّة، خفْنا وبقيْنا في البيت، لم نكنْ نعرفُ ما يحصل، ثمّ عرفْنا من الأخبارِ أنّ حماسَ تهاجمُ، رأيْنا المقاومة في الشوارع، رأيناهُم يجلبون الأسرى. أدركْت أنّ عواقب كبيرة بانتظارنا، لذلك بدأنا بتوضيبِ حقائبنا، اعتقدنا أنّ حرباً بين طرفين ستندلعُ، لم نظن أبداً أنّ الأمرَ سيكون مجردَ هجماتٍ ثمّ نتركُ للموت!
جهزنا الحقائبَ قربَ البابِ استعداداً للنّزوحِ إلى وسطِ البلد، أخذْنا كلَّ أوراقِنا الثّبوتيّة، انقطعت الكهرباءُ، كانَ الأقاربُ يأتونَ ليشحنُوا جوّالاتهم عندي. سألتُ زوجتِي: "ما الّذي تريدينَ إعدادَه من طعامٍ!" كنّا نعيشُ وكأنّنا نحيا للأبد، ونحنُ نعلمُ أنّنا قد نموتُ في اللّحظةِ ذاتِها. كانت ستعدّ "الكوسا المحشي" للأولاد، ولكنّهم لمْ يأكُلوا! 
أرادَ يَحيى وأختهُ أنْ يذهبَا معي إلى السّوق، لكنّي خفتُ أن يقصفُونا ونحنُ في الطّريق، وما إنْ ابتعدتُ قليلاً عن البيت حتّى سمعتُ ذلك الصوتَ، التفْتُّ وكانت هناك سحابةٌ رماديّةُ اللّونِ تُغطي بناءنا، لقد غطّت تلك السّحابةُ معظمَ الشّارعِ، كان الردّمُ يتطايرُ حولي، لقد كانَ برميلاً متفجّراً رماهُ الجّيشُ الإسرائيليّ. في منطقتنا لا يوجد أيُّ مقاتلين، ومع ذلك فقد ضربُوا مربعاً سكنيًّا كاملًا، كانت خمسةُ بيوتٍ تعودُ لعائلتي. تسمّرتُ في مكاني غيرَ قادرٍ على تحريكِ جسدي، أَنظرُ حولي، أَنظرُ إلى الأولادِ! أحاولُ التّحركَ، لكنّي تخّدرتُ! كنتُ مصدوماً! ورأيتهم أمامي يُخرجون أخي وعائلته وأولاده من تحتِ الأنقاض.
قاطعتهُ أمّ يحيى: "بقيتُ نصفَ ساعةٍ ولم يأتِ أحدٌ لإنقاذِي... لقد نَسوني بالكامل!" 
قصفُوا البناءَ بالبراميلِ، أكملَ أبو يحيى؛ قصفوهُ على رؤوسِ سكّانهِ. رأيتُ ذلك بعيني وحتّى الآن أشعرُ أنّي لا أصدّقُ! أخيراً ركضتُ ودخلتُ البناءَ، كان الرّدمُ يحيطُ بي، أحاولُ الزحفَ وأنظرُ حولي، لا شيءَ سوى الغبار والركام. أقعُ وأصطدمُ بالحيطانِ، ثمّ أتهاوى مع ركامِ الانفجار واستطعت أخيراً أن أصلَ إلى بيتنا. وصلتُ أخيراً، ووجدتُ أمّ يحيى أمامي تمسكُ بابنتي لين ذاتِ الثماني سنواتٍ. كانت أمُّ يحيى بلونٍ أبيضَ، يغطّيها الغبارُ وكأنّها طُليت تماماً باللّونِ الأبيض. لقد بقيَ الدخانُ شهرينِ تحتَ أظافرها بلونٍ أسودَ رغمَ كلِّ محاولاتِ تنظيفهِ! هلْ تعرفينَ! إنّ جروحَ ابنتي الّتي شقّتِ القذيفةُ وجهها، بقيتْ بلونٍ أسودَ، غبارُ القصف والصاروخ كان يأخذُ لونَ الجروح! وحين رأيتُ أمّ يحيى، سألتُها: "أينَ الأولاد؟". كنتُ أنظرُ حولي وأرى أنّ البيتَ اختفى والجدران غير موجودةٍ ونحن على تلّةِ ركامٍ فقط. لم أكنْ أرى أولادِي! لمْ أرَ يحيى!

يجب أن يفهمَ العالمُ؛ نحن بشرٌ ونريد أن نعيشَ ولدينا أطفالٌ نريد لهم أن يعيشوا! كان لدى أهل غزَّة هوسٌ بتعليم أولادهم

نظرتُ حولِي، ولمْ أعرف البيتَ، كانَ أمراً غريبًا أنْ أقفَ في فراغٍ هكذا قربَ بيتي ولا أجدُه! شيءٌ ما اختفى في داخلي، لم أجدْ نفسي. رأيتُ زوجتي ثمّ رأيتُ سارة، ابنتي المحروقة ظهرت أمامي، كانت مصدومةً، لم أكنْ على علمٍ بالحروق الكبيرة الّتي أُصيبت بها. منْ يكون في قلبِ النارِ لا ينتبه، حتّى أنّه لا يسمعُ صوتَ الصاروخ. جاء أحدُهم وأخذَ سارة! بحثتُ عن الأولادِ تحتَ الركام والردمِ ولم أجدْهم، رأيْتُ كيف أنَّ حجرًا سقط من الشباك! رأيتُ تحتَ الردم، ومن فتحةٍ ما وسطَ الرّكام رأيتُ ابنتي سما! كانت هناك على سريرها مستلقيةً، انتشلتُها. نظرتُ في وجهها وصرختُ، لقد عرفتُ أنّها فارقَت الحياةَ، وصرتُ أصرخُ على من حولي ليساعدونِي، كنتُ ضعيفاً جدّاً ولا أقوى على الكلامِ. جاء الشبابُ، طلبتُ منهم أن يغطّوها، كانت فتاةً جميلةً جدًّا، ناعمةً. كنتُ أنظرُ إليها وأصرخ: "يا الله... يا الله!" أصرخُ أيضًا أينَ بقيةُ أولادي. رأيتُ رأسَها، لا أعرف لِمَ حدقتُ طويلًا في إصابتها! كان رأسُها مفتوحًا، ووجهها غير واضحِ المعالم. عرفتها من تقويمِ أسنانها، كنتُ أفرّقُها عن أختها التّوأمِ بهذا التّقويم! لاحقاً أذكرُ أنّ تقويمَ أسنانها كانَ العلامةَ الفارقة لتسجيل اسمها في المشرحة!
بعدَ أنْ أخذُوا سما، صرتُ أبحثُ عن لمى ويحيى، سمعتُ أصواتًا وأصواتًا، ورأيتُ أخيرًا لمى. كانتْ تحتَ الرّدمِ تصرخُ، شعرتُ بالرّضا أنّها كانتْ على قيدِ الحياة ولكنّ رِجلها كانتْ مُدلّاةً بطريقةٍ غريبةٍ! وكان رأسها مشقوقاً. أعطيتُها للشّبابِ الذينَ كانوا بقربِي، وتابعتُ البحثَ. سمعتُ أنين يحيى! وجدتُه وأخرجتهُ من تحتِ الرّكامِ، كان يبدو بخيرٍ، ولم نعرفْ أنّ هناك نزيفًا داخليًّا. لم ينتبه الأطبّاءُ إلى نزيفٍ في الكبد، وضعوه في العنايةِ المركّزةِ مع لمى، في مشفى ناصر في خان يونس. لم أكنْ أعرفُ مصير أولادي في تلك اللحظة حينَ انتشلناهم، عرفتُ فقط أنّ سما ماتَت.
بعدَ أنْ نزلنا بهم، نظرتُ حولِي، كنتُ مذهولاً! أدورُ حولَ نفسي! كنتُ - قبلَ قليلٍ - مع ابنتي، وفجأةً - خلال دقائقَ - اختفى كلُّ شيء. دارُ عمِّي بناءٌ من ثلاثة طوابق صار كومًا وردمًا. مات تسعةُ أشخاصٍ في البناء من أولاد عمومتي، كلُّهم، اختفت عائلةٌ بأكملها من الجدِّ إلى الأحفاد! كنت مصدومًا، مثل إنسانٍ مخدّرٍ. كان يجب أن نصمدَ من أجل العناية بالأولاد وبمنْ حولنا، كان انهياري وانهيارُ زوجتي صعبًا. كانَ يجب أن أتماسكَ، في ثوانٍ عشتُ بين حياتين، كنتُ في حياةٍ وفجأةً أصبحت في حياةٍ أخرى. لكن أقولُ لكِ، الفلسطينيُّ عاش هكذا، كأنَّه يجب أن نُعاني، هذا جزءٌ من حياتنا، من هويّتنا. لكن يجب أن يفهمَ العالمُ؛ نحن بشرٌ ونريد أن نعيشَ ولدينا أطفالٌ نريد لهم أن يعيشوا! كان لدى أهل غزَّة هوسٌ بتعليم أولادهم، نتعب ونشقى من أجل أن يتعلَّمَ أبناؤنا. سما ابنتي فتاةٌ مثلُ النَّسمة، رقيقةٌ وهادئةٌ ومجتهدةٌ ومختلفةٌ عن بقيَّة بناتِ جيلها. عندما بدأتْ تكبُر كنتُ أرى مدى وعيِها وذكائِها، كانتْ من الطَّلبةِ المتفوِّقين، قاطعتهُ أمُّ يحيى:" كانت نتائجُها شبه كاملة في المدرسة، ذهنها متَّقدٌ، تتقن التَّطريز، كانت جميلةً، ما زلت أذكر أصابع يديها، يا اللَّه! كانت تملكُ أجمل أصابعٍ في العالم!"
يستعرضُ أبو يحيى صوراً لأبنائهِ: انظري لصورةِ يحيى –يقولُ لي- تأمّليهِ! كانَ الكابتنَ في نادي فريق كرةِ القدم، لقد أخذَ كأسَ البطولةِ. أمُّ يحيى بتأكيدٍ لكلام زوجها: انظري جيِّدًا! هل رأيتِ أجملَ منه! مُصوِّرُه ما يزال يتواصلُ معي. انظري لجماله! وسما! انظري لصور تطريزها! كانت أصابعها سحريَّةً! ويحيى كان ذكيًّا جدًّا! ومؤدَّبًا، لكنَّه كان رجلاً، كان في بداية شبابه، جدَّته تقول: "يحيى غير كلِّ الأولاد!".

تشييع الشهداء واقع يومي في قطاع غزة (دعاء الباز/الأناضول)
تشييع الشهداء واقع يومي في قطاع غزة (دعاء الباز/ الأناضول)

أبو يحيى متابعاً: انظري هذا شغل سما، كانت تحبُّ التَّصوير. نحنُ كنَّا نمنعُ عنهم الإنترنت والجوّالات لفتراتٍ محدَّدةٍ، كنَّا نريدهم أن يقرأوا. كنَّا نهتمُّ بتدريسهم وتربيتهم ونشجعهم على الرِّياضة ونرغبُ أن يكونوا دائماً على الصِّراطِ المستقيمِ لِدِيننا، كنَّا نُريدهم أن يكبروا ويُكملوا جامعاتِهم. كنَّا نعلمُهم الفنَّ والدِّراسة والقرآن. أولادي كانوا قريبين من بعضهم، لم يكونوا إخوةً فقط، كانوا أصدقاء في مقتبلِ عمرهم. لقد ماتَ الكثيرُ من حولنا. أصدقائي في العملِ، وأصدقاءُ زوجتي ماتتَ عائلاتُهم. عشرون بيتًا من حولنا سُوّيَتْ بالأرضِ. لا أعرفُ كيفَ أصفُ لكِ ما رأيتُ. لن تصدقي! العالمُ انهارَ من حولنا، تهدّمَت الأبنيةُ، واختفى البشرُ، وانعجنَ اللحمُ بالنارِ والحجرِ والحديد، ونحنُ احترقنا هنا، من الداخل!
سما كانَت في السادسةَ عشرةَ من عمرها، ولمى في الخامسةَ عشرة، كانتْ حياتُنا تدورُ حولَهم! هؤلاء أولادُنا وأردنا لهم الحياةَ. لقد كانوا شبابًا صغارًا لا دخلَ لهم بشيءٍ! كنتُ كلَّ يومٍ آخذهم مع أولاد عمّهم في نزهةٍ رياضيّةٍ. كنتُ أعتني بحالتهم النفسيّة والبدنيّة والروحيّة، أحرصُ على هذا المشوارِ اليوميّ حتّى يتعلّموا التفكيرَ ويتعوّدوا المشيَ! كانَ هناك نظامٌ لهم! يعودون لدراستهم وواجباتهم، ثمَّ بعدَ ساعتين ينامون. كنّا نحضّر أولادنا ليكبروا! لقد متنا مع أولادنا!
عندما أرادتْ سما أنْ تتخصَّصَ في البرمجةِ التِّقنيَّة. احترنا إنْ كانَ هذا مناسبًا لها، لكنَّ سما كانتْ تريدُه. كانتْ جَدَعه، اشتريتُ لها كمبيوترًا، كانت مهتمَّةً بالبرمجة وتريدُ دراستها، وكانت بارعةً في ذلك. كانت ذكيَّةً وسريعةَ البديهةِ. تهتمَّ بما حولها، لم تكن بحاجةٍ حتَّى لأنْ يطلبَ النَّاسُ منها ما يريدونه. كانت سريعةَ التَّأثُّرِ والتَّعاطف، تساعدُ مَن حولها. فتاةٌ استثنائيَّةٌ، لا تفوّتُ صلاةً واحدة حتَّى! يحيى كان متفوِّقًا أيضًا! كان محبوبًا من الجميعِ ومعروفًا بتهذيبِه! هناكَ ناسٌ حتّى الآنَ لا تستطيعُ النَّظرَ في وجهي مِنْ حبِّهم له، مرَّت ستَّةُ أشهرٍ وهم لا يستطيعونَ مواجهتي من الحزنِ على يحيى، كانت كلُّ حياتي لأولادي. 
بعد قصفِ البيتِ وذهابنا إلى المشفى، رأيتُ الجميعَ من حولي، وكانوا ينادونَ باسم لمى، اعتقدوا أنِّي لا أعرفُ بموت سما، وكنتُ أسألُ عن لمى، خشيتُ أنَّ لمى ماتت أيضًا، عرفتُ من البداية مصير سما وصار همِّي في أختها. كانت هناكَ فوضى وخوف، وذهبتُ للمشرحة، لم أعرفْ ماذا أعمل، جثثٌ وجثث، والنَّاسُ من حولي، النَّاسُ تحاولُ التَّعرُّفَ على أبنائها، الجثثُ مشوَّهةٌ، كنت مذهولًا! النَّاسُ تعزِّي بعضها البعضَ، الكلّ لديهم أموات، الكلّ! الكلّ يبحثُ عمَّا بقيَ من أولاده... 
دفنّا سما، وكنَّا نجهِّز القبور، كان يحيى ولمى ما يزالان في العنايةِ المشدَّدة، كانَ ذهني مشوَّشًا، لا أعرفُ ما الَّذي سأفعله، وابنتي الثَّالثة سارَة لديها حروقٌ عميقةٌ في وجهها، كانَ الأمرُ فظيعًا! خرجنا من الجنازةِ، وتركتُ سما تحتَ التُّراب، حاولتُ معرفة من تبقَّى على قيدِ الحياة من عائلتي الكبيرة، ولم أجد الكثيرَ من المعلومات. 
في اليوم التَّالي مات ابني يحيى! لم أصدِّق! لم أتوقَّع أن يذهبَ هكذا، لم أجدْ جروحاً في جسمه، كان يبدو بخيرٍ! لم أعرف أنَّ وضعهُ خطيرٌ هكذا! وخرجنا في جنازةٍ ثانية، كانت جنازةً كبيرةً، كنتُ أبكي، لم أستوعبْ ما يحصلْ، كانت صدمةً، لقد اكتشفُوا النَّزيف متأخِّرًا. في منتصفِ الليلِ أخذُوا يحيى إلى المشرحة، كنتُ أفكِّر بأمِّه وكيف ستعرفُ وكيف ستتلقَّى الخبرَ! عندما أخبرتها، صمتتْ، لم تصرخْ حتَّى! قالتْ: الحمدُ للَّه وحسبي اللَّه ونعم الوكيل، ثمَّ بكَتْ بصمتٍ، بكتْ كثيراً بصمتٍ.
أخذ أقرباؤُنا ساقَ ابنتي ودفنوها في المقبرةِ حرصًا عليَّ، كانوا يُحاولون أن يُجنّبوني هذا الموقفَ، لكنّ الساقَ دُفنت عشوائيّاً بين قبرين لأناسٍ لا نعرفهم، كانت بالنسبة لأقربائِي مجرّدَ ساقٍ لفتاة. لكنّها كانت جزءاً من ابنتي، من جسدِ ابنتي الحبيبة التي ما تزالُ على قيد الحياة. غريبٌ أن يكونَ هناك أجزاءٌ مدفونةٌ من الإنسان وهو ما يزالُ على قيدِ الحياة. في النّهاية أتينا بساقِ ابنتي ودفنّاها بجانبِ أخوَيها، هكذا هي العائلةُ، يجب أن يبقوا معًا. نحن مِن عائلتين كبيرتين: الآغا والفرّا، وكانت العائلةُ من حولنا في خان يونس. كانوا جميعاً معي عندما أخذنا أدوات الحفرِ، وذهبنا وانتشلنا رجلَ ابنتي من قبرِها، وأتينا بها، لندفنَها مع العائلة.
رُحتُ أفكّر بساقِ ابنتهم المبتورة. كانا يتحدثان عنها بحزنٍ قاتلٍ. كثيرٌ من الأطفال الغزيّين فقدوا أرجلَهم في هذه الحرب وما سبقَها من حروب. الأرجلُ التي ارتبطَت بها أحلامُ أمّهاتٍ وآباء، أرجلٌ كان من المنتظرِ أن تحملَ أصحابها إلى الجامعات يوماً ما. 

 

كيف نكتب الإبادة؟ عن هدم العالم وأشباحه

فراس الشيخ رضوان... الذي رأى ما لا يُرى (1)

الطبيب خالد أبو سمرة... مناوبتي التي لم تنته (2)

ندى عيسى عيّاش: الرائحة (3)

المساهمون