يستمر "الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق" (مقرّه الرئيسي في بيروت) في دعم مشاريع سينمائية عربية، بتمويلها مالياً (عبر منح متفاوتة القيمة المالية)، وفي إتاحة الفرصة أمام جمهورٍ عربي "يفترض" به مشاهدتها كأفلام جاهزة للعرض، بعيداً عن "صرامة" الخطط التوزيعية العربية ومنطقها التجاري ـ الاستهلاكي الطاغي، وهي خطط منفضة ـ بغالبيتها ـ عن كل مختلف وتجديدي، وعن كل مشروع "رافض" للخضوع لمعايير السوق التجارية ـ الاستهلاكية.
منذ تأسيسه في عام 2007، يحاول الصندوق ابتكار فرصٍ متنوعة، لتفعيل تواصل مطلوب بين "صناعة" ـ تعمل على توسيع رقعة خياراتها الإبداعية واختباراتها الجمالية والدرامية والفنية ـ ومشاهدين محتملين، يفترض بالتواصل المعني هذا أن يردم، أو أن يحاول على الأقل ردم، الهوة بينهم وبين كل جديد تجديدي بشتى الوسائل الممكنة.
تمويل وعروض
لن تكتفي "آفاق" ببرمجة سنوية لتمويل مشاريع يختارها معنيون بالهم السينمائي، تتشكل منهم لجان تحكيم تقرأ وتناقش وتختار، ويتغير أعضاؤها كل مرة. فتقديم منح تمويلية للمشاريع المقبولة، يساهم في تحقيق أفلامٍ يؤكد معظمها أن اللغة السينمائية نواة جوهرية لصناعة الفيلم، وأن التجريب المفتوح على الأسئلة والأشكال كلها من دون استثناء ـ "قدر" إبداعي لمن يرغب في البحث الدائم عن المختلف والمجدد.
اقــرأ أيضاً
البرمجة نفسها لن تكتمل في تنفيذ المخطط الثقافي ـ الفني للصندوق، من دون العمل الميداني على إيجاد فضاءات عديدة، تعرض الأفلام المنجزة أمام مشاهدين عرب بالدرجة الأولى، كما في مهرجانات ونشاطات سينمائية عربية ودولية متفرقة.
غير أن أسئلة عديدة تطرح في هذا السياق: فعلى الرغم من الشفافية المعتمدة في "آفاق"، بخصوص الممولين والداعمين مالياً (تنشر أسماؤهم على الموقع الإلكتروني الرسمي للصندوق)، ومع أن المؤسسة تطمح إلى تثبيت استقلالية ما إزاء الممولين والمانحين، بهدف تعزيز "حريتها" في العمل الثقافي العام، و"حرية" السينمائي في خياراته الإبداعية والدرامية والجمالية؛ إلا أن مسألتي اختيار المشاريع والفضاءات الخاصة بالعروض تشكلان مدخلاً إلى نقاش نقدي يتناول طبيعة الدعم والتمويل، وآلية إيصاله إلى الجمهور المطلوب.
قبل ذلك، لا يمكن تجاوز حالة تمويلية تعيشها حركة الإنتاج السينمائي في العالم العربي. فإلى جانب "آفاق"، هناك "مؤسسة الشاشة في بيروت"، وصندوق "إنجاز" التابع لـ "مهرجان دبي السينمائي"، و"مؤسسة الدوحة للأفلام"، قبل أن يتوقف "مهرجان أبوظبي السينمائي" عن تنظيم دوراته السنوية منذ عام 2014، وإيقاف العمل في "صندوق سند" التابع له. هذه أمثلة عن نمط تمويلي تشهده صناعة الأفلام العربية، إذ يبدو التشابه بينها قائماً على مستوى تقديم منح وتمويل، وفي أساليب الاختيار، المبنية على أولويات تتشابه، هي أيضاً، في عناوينها الرئيسية: مشاريع شبابية، ولغة تجديدية، واهتمام درامي بمسائل فردية مفتوحة على أسئلة الجماعة، والتشديد على المغاير والمختلف، شكلاً ومضموناً، إزاء أنماط الإنتاج السائدة حالياً في العالم العربي. هناك أيضاً العمل على إيجاد حيّز عملي للعرض خارج إطار المهرجانات والنشاطات السينمائية.
فهل تتوصّل "آفاق" إلى تحقيق هذا؟
اقــرأ أيضاً
تساؤلات
الشفافية ركن أساسي في عمل "آفاق"، يتيح للمرء متابعة بعض أبرز تفاصيل الحصول على تمويل مالي، يترجم لاحقاً بدعم مشاريع مختلفة. التبديل الحاصل في لجان التحكيم، التي يرتكز عملها على اختيار ما يراه أعضاؤها (العاملون في مجالات سينمائية متنوّعة) الأنسب والأفضل والأكثر استجابة للشرط الإبداعي، ركن ثان يمكن الاتكاء عليه في تأكيد صدقية ما للصندوق، في اشتغالاته الثقافية والفنية المختلفة. لكن الركن الأهم يكمن في النتيجة: الأفلام الحاصلة على منح "آفاق" تؤكد، بغالبيتها، أن النتاج السينمائي الشبابي المستقل، لغة ومعالجة ومواضيع تصيب جوهر الحالات والحكايات والأفراد، يبلغ مرتبة متقدمة في قراءة "جريئة" ومتينة الصنعة للأسئلة كلها.
أما بخصوص العرض، فإن "آفاق" تجهد، منذ 2014، لإيجاد حيز كهذا، يتيح للأفلام فرصة تواصل مع جمهور مفترض، بعيداً عن شروط السوق التجارية الاستهلاكية، ويتيح للمشاهدين المهتمين فرصة متابعة حراك سينمائي شبابي تجديدي. صحيح أن الرغبة أكيدة في تمتين علاقة مطلوبة بين نتاج مختلف ومشاهدين مختلفين أيضاً؛ لكن العامين الفائتين يعكسان تواضعاً في نسبة القادمين إلى الصالات لمشاهدة أفلام "آفاق"، وإنْ تمتلئ الصالات هذه بكلّيتها أحياناً، (من دون التغاضي عن عدد المقاعد فيها، التي يبلغ معدّلها نحو 250 مقعداً). الاختبار هذا فعل تأسيسي لجمهور سينمائي مختلف، يبدو أنه لا يزال يحتاج إلى بعض الوقت لتفعيله وتطويره ورفع عدده وتوسيع رقعته الجغرافية.
إذاً، بعد 7 أعوام على تأسيسه وعمله، ينظّم "الصندوق العربي للثقافة والفنون" أول أسبوع سينمائي لعرض مختارات من الأفلام التي يساهم في تمويلها، باسم "أسبوع آفاق السينمائي"، المُقام في بيروت بين 4 و11 مارس/ آذار 2014، والمتضمّن 11 فيلماً روائياً طويلاً ووثائقياً وقصيراً، من أصل 150 مشروعاً سينمائياً متنوّعاً، تحصل على منح الصندوق المهتم، أساساً، بـ "دعم السينمائيين العرب المستقلين". يراد للأسبوع، منذ البداية، أن يكون "حدثاً سنوياً متنقلاً"، أي أن "يقام كل عام في واحد من بلدان المنطقة العربية"، وذلك بهدف "منح السينمائيين العرب منصة إضافية لمشاركة أفلامهم مع جمهورهم الطبيعي". فـ"آفاق" ترى الحدث هذا "تعويضاً صغيراً عن افتقار معظم النتاج السينمائي العربي المستقل إلى خطط توزيع، تؤمن وصوله إلى جمهور عريض داخل العالم العربي، وخارجه". فباستثناء المهرجانات السينمائية العربية والدولية، يجد السينمائي العربي نفسه "وحيداً مع فيلمه"، بعد أعوام طويلة من العمل، و"عاجزاً عن إيصال صوته أو مشاركة فيلمه مع جمهور حقيقي".
بهذا، يعلن الصندوق عن رغبته في المشاركة العملية في إيجاد نوعٍ من حلول، لن تكون جذرية وطويلة الأمد (لأنها ليست مهمته أصلاً)، لمسألة التوزيع السينمائي الخاص بأفلام لن تصنف "تجارية"، إذ يساهم ـ بشكل مبسط ـ في تقريب المسافة بين الأفلام ومشاهديها. وهذا يطرح بالتالي سؤال التوزيع السينمائي العربي برمته، إذ رغم جهود يبذلها أفراد وجمعيات ومؤسسات متفرقة في مسألتي التوزيع والعروض الجماهيرية، تعاني غالبية الأفلام من مأزق التواصل مع المشاهدين، لأن موزّعين كثيرين ينفضّون عنها بحجة أساسية: هذه ليست أعمالاً ذات مردود مالي. لذا، يتعاون الصندوق مع صالات "فنّ وتجربة" مثلاً (كما هو حاصل في بيروت والقاهرة)، لإيجاد فسحة للمشاهدة، حاضرة في البيئة الجغرافية ـ الاجتماعية أصلاً، وإن بتفاوت ملحوظ بين المدينتين، ومرتبطة بجمهور محدد بها، جراء استمرارية عملها السينمائي المتنوع خلال أشهر السنة كلها.
اقــرأ أيضاً
النجاحان النقدي والجماهيري للدورة الأولى، المتميزان بكونهما متأتيين من حماسة ـ ولو متواضعة ـ لمتابعة الاختبار الأول لـ "آفاق" في المجال هذا، يدفعان إدارة الصندوق إلى تنظيم دورة ثانية، تقام في القاهرة بين 15 و22 أبريل/ نيسان 2015، متضمّناً 14 فيلماً، علماً بأن الدورة الثالثة تقام في تونس بين 25 مايو/ أيار والأول من يونيو/ حزيران 2016، متضمّناً 16 فيلماً، بعضها معروض في الدورة الثانية، في إطار البحث الدائم عن أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين، لأفلام تؤدي دوراً أساسياً في بلورة لغة سينمائية تجديدية، تعتمد الصورة أساس الحكاية، وتغوص في تداعيات الذات الفردية كمدخل إلى فهم، أو إلى محاولة فهم حضورها ونبضها وأحوالها وأسئلتها، من دون تناسي ارتباطها ببيئتها، أو بالحيز الاجتماعي ـ الثقافي ـ الاقتصادي المحيط بها. وإذ يرى الصندوق أن المستفيدين من منحه السنوية يتابعون أعمالهم ضمن المنطقة العربية، "مستلهمين مواضيع أعمالهم من صميم همومها وخصوصيتها"، إلاّ أن أفلاماً عديدة منصرفة إلى تفكيك البنى الفردية للمرء، إن يكن المرء هذا هو السينمائي نفسه، أو آخر يريد السينمائي وضعه أمام مرآة نفسه والجماعة معاً.
حكايات
بمعنى آخر، فإن أفلاماً عديدة تنعزل في عوالم ذات فردية، كي تقرأ ملامحها وهواجسها واختباراتها وتفاصيل عيشها؛ في حين أن أفلاماً أخرى تنطلق من العوالم هذه تحديداً، كي تجول في مسام الجماعة وحساسياتها وأهوائها ومشاغلها. الأمثلة متنوعة، منها أعمال معروضة في الدورة الثانية أيضاً، كـ " المطلوبون الـ 18" للفلسطيني عامر شوملي والكندي بول كووان، و"74، استعادة لنضال" للّبنانيين رانيا ورائد رافعي، و"ماء الفضة" للسوريين أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان.
اقــرأ أيضاً
فالأول يرتكز على حكاية واقعية تجري فصولها في المدينة الفلسطينية بيت ساحور، في العام الثاني على الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1993)، كي ينقب في أحوال البيئة العامة عن معالم المواجهة الفلسطينية السلمية للاحتلال الإسرائيلي، مازجاً الوثائقي بالتحريك المتخيل. والثاني يتوقف عند إحدى لحظات النضال الطالبي الجامعي اللبناني، عشية اندلاع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، في مواجهة سلطة المال داخل "الجامعة الأميركية في بيروت"، كي يرسم ملامح بيئة وحالة اجتماعية ـ ثقافية تعكس غليان الواقع اللبناني، في ظل تبدلات العالم العربي حوله، في النصف الأول من السبعينيات المنصرمة. أما الثالث، فينطلق من صور تلتقطها الشابة وئام سيماف بدرخان، عن حمص الواقعة في الخراب والألم والتمزق، جراء وحشية العنف الأسدي في سعي النظام الحاكم إلى كسر إرادة الناس ورغبتهم في الكرامة والحرية والعدالة.
التشابه بين الأفلام الـ 3 هذه كامن في مسألتين أساسيتين: التزام منهج بصري منتمٍ إلى تقنية "الفيلم الوثائقي المتخيل"، الخارج من كل تقليدية سينمائية، إلى اختبار معنى الصورة في مقاربة الحكاية. والاعتماد على الحكاية الفردية البحتة لمقاربة أحوال بيئة وجماعة، إذ إن "المطلوبون الـ 18" يبدأ من العلاقة الشخصية ـ الذاتية للمخرج الفلسطيني بالحكاية الأصلية، و"74" يتمحور حول أفراد يواجهون تعنت الإدارة وسلطتها، و"ماء الفضة" مبني على الذات الفردية، المفتوحة على شخصيتي أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، في مشاهداتها ومشاعرها وبوحها وانفعالاتها وارتباطاتها بالمدينة والحدث والناس.
يمكن إضافة فيلم رابع أيضاً، هو "شيوعيين كنا" للّبناني ماهر أبي سمرا. فالمخرج الوثائقي يجمع أمام كاميراه عدداً من أصدقائه الشيوعيين اللبنانيين، المتحولين، لاحقاً، إلى مشارب سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة، أو مناقضة تماماً للأصل الشيوعي. المتخيل في بناء الفيلم امتداد لحالات تخترق الذات والوعي، كي تجعل البوح الفردي مرآة تفضح وتعري، أو تكتفي باستعادة زمن وحكايات ماضية.
تمويل وعروض
لن تكتفي "آفاق" ببرمجة سنوية لتمويل مشاريع يختارها معنيون بالهم السينمائي، تتشكل منهم لجان تحكيم تقرأ وتناقش وتختار، ويتغير أعضاؤها كل مرة. فتقديم منح تمويلية للمشاريع المقبولة، يساهم في تحقيق أفلامٍ يؤكد معظمها أن اللغة السينمائية نواة جوهرية لصناعة الفيلم، وأن التجريب المفتوح على الأسئلة والأشكال كلها من دون استثناء ـ "قدر" إبداعي لمن يرغب في البحث الدائم عن المختلف والمجدد.
غير أن أسئلة عديدة تطرح في هذا السياق: فعلى الرغم من الشفافية المعتمدة في "آفاق"، بخصوص الممولين والداعمين مالياً (تنشر أسماؤهم على الموقع الإلكتروني الرسمي للصندوق)، ومع أن المؤسسة تطمح إلى تثبيت استقلالية ما إزاء الممولين والمانحين، بهدف تعزيز "حريتها" في العمل الثقافي العام، و"حرية" السينمائي في خياراته الإبداعية والدرامية والجمالية؛ إلا أن مسألتي اختيار المشاريع والفضاءات الخاصة بالعروض تشكلان مدخلاً إلى نقاش نقدي يتناول طبيعة الدعم والتمويل، وآلية إيصاله إلى الجمهور المطلوب.
قبل ذلك، لا يمكن تجاوز حالة تمويلية تعيشها حركة الإنتاج السينمائي في العالم العربي. فإلى جانب "آفاق"، هناك "مؤسسة الشاشة في بيروت"، وصندوق "إنجاز" التابع لـ "مهرجان دبي السينمائي"، و"مؤسسة الدوحة للأفلام"، قبل أن يتوقف "مهرجان أبوظبي السينمائي" عن تنظيم دوراته السنوية منذ عام 2014، وإيقاف العمل في "صندوق سند" التابع له. هذه أمثلة عن نمط تمويلي تشهده صناعة الأفلام العربية، إذ يبدو التشابه بينها قائماً على مستوى تقديم منح وتمويل، وفي أساليب الاختيار، المبنية على أولويات تتشابه، هي أيضاً، في عناوينها الرئيسية: مشاريع شبابية، ولغة تجديدية، واهتمام درامي بمسائل فردية مفتوحة على أسئلة الجماعة، والتشديد على المغاير والمختلف، شكلاً ومضموناً، إزاء أنماط الإنتاج السائدة حالياً في العالم العربي. هناك أيضاً العمل على إيجاد حيّز عملي للعرض خارج إطار المهرجانات والنشاطات السينمائية.
فهل تتوصّل "آفاق" إلى تحقيق هذا؟
الشفافية ركن أساسي في عمل "آفاق"، يتيح للمرء متابعة بعض أبرز تفاصيل الحصول على تمويل مالي، يترجم لاحقاً بدعم مشاريع مختلفة. التبديل الحاصل في لجان التحكيم، التي يرتكز عملها على اختيار ما يراه أعضاؤها (العاملون في مجالات سينمائية متنوّعة) الأنسب والأفضل والأكثر استجابة للشرط الإبداعي، ركن ثان يمكن الاتكاء عليه في تأكيد صدقية ما للصندوق، في اشتغالاته الثقافية والفنية المختلفة. لكن الركن الأهم يكمن في النتيجة: الأفلام الحاصلة على منح "آفاق" تؤكد، بغالبيتها، أن النتاج السينمائي الشبابي المستقل، لغة ومعالجة ومواضيع تصيب جوهر الحالات والحكايات والأفراد، يبلغ مرتبة متقدمة في قراءة "جريئة" ومتينة الصنعة للأسئلة كلها.
أما بخصوص العرض، فإن "آفاق" تجهد، منذ 2014، لإيجاد حيز كهذا، يتيح للأفلام فرصة تواصل مع جمهور مفترض، بعيداً عن شروط السوق التجارية الاستهلاكية، ويتيح للمشاهدين المهتمين فرصة متابعة حراك سينمائي شبابي تجديدي. صحيح أن الرغبة أكيدة في تمتين علاقة مطلوبة بين نتاج مختلف ومشاهدين مختلفين أيضاً؛ لكن العامين الفائتين يعكسان تواضعاً في نسبة القادمين إلى الصالات لمشاهدة أفلام "آفاق"، وإنْ تمتلئ الصالات هذه بكلّيتها أحياناً، (من دون التغاضي عن عدد المقاعد فيها، التي يبلغ معدّلها نحو 250 مقعداً). الاختبار هذا فعل تأسيسي لجمهور سينمائي مختلف، يبدو أنه لا يزال يحتاج إلى بعض الوقت لتفعيله وتطويره ورفع عدده وتوسيع رقعته الجغرافية.
إذاً، بعد 7 أعوام على تأسيسه وعمله، ينظّم "الصندوق العربي للثقافة والفنون" أول أسبوع سينمائي لعرض مختارات من الأفلام التي يساهم في تمويلها، باسم "أسبوع آفاق السينمائي"، المُقام في بيروت بين 4 و11 مارس/ آذار 2014، والمتضمّن 11 فيلماً روائياً طويلاً ووثائقياً وقصيراً، من أصل 150 مشروعاً سينمائياً متنوّعاً، تحصل على منح الصندوق المهتم، أساساً، بـ "دعم السينمائيين العرب المستقلين". يراد للأسبوع، منذ البداية، أن يكون "حدثاً سنوياً متنقلاً"، أي أن "يقام كل عام في واحد من بلدان المنطقة العربية"، وذلك بهدف "منح السينمائيين العرب منصة إضافية لمشاركة أفلامهم مع جمهورهم الطبيعي". فـ"آفاق" ترى الحدث هذا "تعويضاً صغيراً عن افتقار معظم النتاج السينمائي العربي المستقل إلى خطط توزيع، تؤمن وصوله إلى جمهور عريض داخل العالم العربي، وخارجه". فباستثناء المهرجانات السينمائية العربية والدولية، يجد السينمائي العربي نفسه "وحيداً مع فيلمه"، بعد أعوام طويلة من العمل، و"عاجزاً عن إيصال صوته أو مشاركة فيلمه مع جمهور حقيقي".
بهذا، يعلن الصندوق عن رغبته في المشاركة العملية في إيجاد نوعٍ من حلول، لن تكون جذرية وطويلة الأمد (لأنها ليست مهمته أصلاً)، لمسألة التوزيع السينمائي الخاص بأفلام لن تصنف "تجارية"، إذ يساهم ـ بشكل مبسط ـ في تقريب المسافة بين الأفلام ومشاهديها. وهذا يطرح بالتالي سؤال التوزيع السينمائي العربي برمته، إذ رغم جهود يبذلها أفراد وجمعيات ومؤسسات متفرقة في مسألتي التوزيع والعروض الجماهيرية، تعاني غالبية الأفلام من مأزق التواصل مع المشاهدين، لأن موزّعين كثيرين ينفضّون عنها بحجة أساسية: هذه ليست أعمالاً ذات مردود مالي. لذا، يتعاون الصندوق مع صالات "فنّ وتجربة" مثلاً (كما هو حاصل في بيروت والقاهرة)، لإيجاد فسحة للمشاهدة، حاضرة في البيئة الجغرافية ـ الاجتماعية أصلاً، وإن بتفاوت ملحوظ بين المدينتين، ومرتبطة بجمهور محدد بها، جراء استمرارية عملها السينمائي المتنوع خلال أشهر السنة كلها.
حكايات
بمعنى آخر، فإن أفلاماً عديدة تنعزل في عوالم ذات فردية، كي تقرأ ملامحها وهواجسها واختباراتها وتفاصيل عيشها؛ في حين أن أفلاماً أخرى تنطلق من العوالم هذه تحديداً، كي تجول في مسام الجماعة وحساسياتها وأهوائها ومشاغلها. الأمثلة متنوعة، منها أعمال معروضة في الدورة الثانية أيضاً، كـ " المطلوبون الـ 18" للفلسطيني عامر شوملي والكندي بول كووان، و"74، استعادة لنضال" للّبنانيين رانيا ورائد رافعي، و"ماء الفضة" للسوريين أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان.
التشابه بين الأفلام الـ 3 هذه كامن في مسألتين أساسيتين: التزام منهج بصري منتمٍ إلى تقنية "الفيلم الوثائقي المتخيل"، الخارج من كل تقليدية سينمائية، إلى اختبار معنى الصورة في مقاربة الحكاية. والاعتماد على الحكاية الفردية البحتة لمقاربة أحوال بيئة وجماعة، إذ إن "المطلوبون الـ 18" يبدأ من العلاقة الشخصية ـ الذاتية للمخرج الفلسطيني بالحكاية الأصلية، و"74" يتمحور حول أفراد يواجهون تعنت الإدارة وسلطتها، و"ماء الفضة" مبني على الذات الفردية، المفتوحة على شخصيتي أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، في مشاهداتها ومشاعرها وبوحها وانفعالاتها وارتباطاتها بالمدينة والحدث والناس.
يمكن إضافة فيلم رابع أيضاً، هو "شيوعيين كنا" للّبناني ماهر أبي سمرا. فالمخرج الوثائقي يجمع أمام كاميراه عدداً من أصدقائه الشيوعيين اللبنانيين، المتحولين، لاحقاً، إلى مشارب سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة، أو مناقضة تماماً للأصل الشيوعي. المتخيل في بناء الفيلم امتداد لحالات تخترق الذات والوعي، كي تجعل البوح الفردي مرآة تفضح وتعري، أو تكتفي باستعادة زمن وحكايات ماضية.