رغم كثرة الكتابات عن ثورة 25 يناير 2011، إلا أن رواية "أشباح بيت هاينريش بُل" للشاعر والروائي السكندري علاء خالد (1960)، تقدّم فضاء خاصاً في مقاربة الثورة المصرية، لا تقوم فيه الكتابة بدور توثيقي، أو احتفائي، أو دفاعي، بقدر ما تُسائل الثورة وتحاورها وتشتبك معها، لا على المستوى السياسي الظاهري، إنّما على المستوى الإنساني والاجتماعي.
الرواية الصادرة حديثاً عن "دار الشروق"، تأخذ مسارين متقاطعين، أحدهما يمثّل رحلة الكاتب إلى ألمانيا لمدة أربعة أشهر في إقامة أدبية، والآخر يمثّل مسيرة ثورة 25 يناير، ورحلة الكاتب معها متنقلاً بين الإسكندرية والقاهرة، وبين الفرد والجموع، بين الموت والبعث الجديد: "الثورة خلقت نوعاً جديداً من الطاقة، كهرباء مجنونة، ليست طاقة الحماسة، أو طاقة الفرح، أو طاقة التفاؤل، وإنما طاقة خالصة، يمكن أن تضيء أو أن تحرق. كأن هناك مصدراً كبيراً للطاقة انفجر، ولا يمكن أن تحدّد نصيب كل منا منه، ولا حجم تأثيره. هذا المصدر أزاح كل خاصية إنسانية لحدّها الأقصى، الصوت، الحركة، النظر، المذاق، الجوع".
أكثر ما يميز العمل أنه ينطلق من تجربة إنسانية حيّة، لا من أفكار وتصوّرات وأيديولوجيات مجرّدة: "هناك فرق حادّ بين الثورة الشخصية والثورة الجماعية. ظاهرياً ربّما تبدوان شبيهتين، ولكن داخلياً هناك صراع بين الذات والجموع، والذي لن ينتهي ولن تحلّه ثورة أبداً. ربما استمرار هذا الصراع شيء أعمق من أي ثورة، لأنه يغذّي فكرة الوجود نفسها التي بها كثير من الأخطاء".
عبر كتابة صنعتها سنوات من التساؤل والتأمل والبحث والانتظار، وكلمات لاذعة ومرّة، لكنها تحمل لذّة خاصة، ينكأ علاء خالد العديد من الجراح على المستوى الشخصي والعام. يفتح أبواب الثورة الموصدة، ويدعوها لرفقة طويلة وحوار ممتد بعيداً عن ضجيج الهتاف.
"هناك جغرافيا تصنعها أي ثورة تضع بينها وبين أعدائها حدوداً واضحة. لكن الثورة المصرية حدثت بدون انفصال في جبهات المواجهة. ميدان التحرير كان مفتوحاً على مقاهي ومطاعم وكافيتريات وسط البلد المكدّسة بالموظفين والسماسرة، ممّن يعيشون حالة لامبالاة، بعيداً عمّا يحدث في الميدان. في المساء كانت البارات تمتلئ بزبائنها المعتادين، بالإضافة لمن جذبتهم الثورة للكحول والبوح. لم تفصل الثورة مادياً بين مُعسكرين زمنيين، لم تصنع ذلك الزمن الجذري الواحد والجارف الذي يكنس كل الأزمنة اليومية الاعتيادية".
في هذا العمل يبتعد خالد عن جغرافيا الإسكندرية -مدينته الأثيرة التي كانت محور كتاباته السابقة- ليتمدّد داخل جغرافيا جديدة، ويعيش حيوات متنوّعة، ويواجه أشباحا جديدة، في مرحلة عمرية فارقة في حياته مع بداية عقده السادس.
"تأخر سفري أربعة أيام لتلك المنحة التي جاءتني من مؤسسة "هاينريش بُل" لإقامة أدبية طويلة مدّتها أربعة أشهر في إحدى القرى الألمانية. والسبب كان حضوري الاحتفال بعيد ميلادي الخمسين. هذا الرقم المصمّت الذي من الصعب أن أتمّه في مكان آخر، غير المكان الذي وُلدت به. في ذلك الوقت دخلت الثورة في مرحلة من الثرثرة وتفرّعت في مسارات جانبية غير متوقّعة، أشعرتني تماماً بالإرهاق النفسي، وجعلتني أقبل بدون تردّد هذه المنحة الأدبية".
خلال الإقامة الأدبية رافق خالد أربعة أدباء من مراحل عمرية مختلفة، ثلاثة منهم من دول الاتحاد السوفيتي السابق، والرابع من الصين. على مدار أربعة أشهر، تمدّدت علاقتهم، وتشعبت حوارتهم عن الأدب والكتابة، الجنس والحب، الاقتصاد والسياسية، الأنا والآخر، الشرق والغرب، الإيمان والمعتقدات، الفرد والمجتمع، العنصرية وقبول الآخر، الشيوعية والرأسمالية، الصحراء والغابة.
هذه الحوارات والتجارب لم تكن منفصلة عن حياة القرية وسكانها، بل جزءاً منها، تلك القرية المحاطة بغابة كبيرة، ويسكنها عدد قليل من السكان، أصبحوا جزءاً رئيسياً من تجربة الإقامة الأدبية، ومحوراً لكتابات الكثير من رواد بيت "هاينريش بُل": "قبل العشاء الذي دعانا إليه جيرمان، بقليل، حضرت جارتنا العجوز في البيت المجاور هي وابنها، وهما اللذان قابلتهما منذ عدّة أيام في ندوة القراءات الخاصة بزميلي في المنحة زوفنكو والغريد. حضرا العشاء بدون دعوة كأن جيرتهما للبيت تمنحهما الحقّ في الدخول والخروج في أي وقت وأي موعد!".
رغم أن زمن الرواية يبدأ بلحظة سفر خالد إلى الإقامة الأدبية، وينتهي مع عودته لمصر، إلا أن داخل هذه الفترة القصيرة يتمدّد الزمن بصورة هائلة، كذلك تتمدّد الجغرافيا لتتجاوز بيت الإقامة والقرية الألمانية المعزولة ووقائع ثورة يناير، لتأخذنا لروسيا البيضاء والشيشان، مروراً بصربيا، وصولاً إلى الصين.
"كنت أستعجب من حديثه الساخر عن هذا العملاق الصيني، وأفكّر في الدعاية الصينية التي انتشرت بأنها القوّة المستقبلية التي ستغيّر وجه العالم، وشرحت له كيف أن هناك في مصر من يدرس الصينية لأنها ستصبح لغة المستقبل، كان يسمع كلامي باستغراب كأني أتكلّم عن بلد آخر غير بلده".
على مدار فصول رواية "أشباح بيت هاينريش بُل"، تتوحّد شخوص الكاتب والراوي والبطل، وتصبح الكتابة والحكي محاولة لضبط بوصلة الروح المضطربة، بأحلام الثورة وهواجس وأشباح الواقع.
"عندما تحدثت مع جيرمان حول المطاردات التي تقوم بها الأفكار في وحدتي، كنت أستعيد روح حديث قديم لصديق، حول فكرة الأدب التي يلخّصها أحد الكتاب. إن وظيفة الأدب هي مطاردة الأشباح التي يحملها كل منا بداخله. الأشباح بالمعنى الحقيقي والمجازي".