"أ، ب، ت..". الآن "واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة..". يهنّئه المحيطون دائماً. ها هو يتقدّم بسرعة. قليلٌ من الوقت وينتهي من حفظ الأبجدية. مزيدٌ من الوقت ويكتب اسمه. صار قادراً على العدّ حتى الرقم ستة. لن يكتفي بهذا القدر. كيف ذلك وهو يريد أن يكون من أصحاب الملايين. لم يكن يوماً بطلاً في أي فيلم. هذه الملايين أفضل من رقم الـ 21 مليون طفل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الموجودين خارج المدرسة، أو المهددين بتركها، بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف).
التقرير، الذي أطلقته "يونيسيف" بالشراكة مع معهد "اليونيسكو" للإحصاء، يشير إلى أن عدد الأطفال واليافعين غير الملتحقين بالمدرسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يصل إلى 12,3 مليوناً. وبحسب الإحصاءات الأخيرة، فإن أكثر من ستة ملايين طفل معرضون لخطر ترك المدرسة. وهناك أكثر من ثلاثة ملايين طفل خارج المدرسة في سورية والعراق، حيث دمرت الحرب في كل منهما جزءاً كبيراً من قطاع التعليم.
يُدرك أهميّة التعليم. هو "سلاحه". هكذا اعتاد والداه أن يقولا قبلَ أن يُقتلا. الناس هنا لا يعرفون غير السلاح. تشبّعوا من الحروب حتى باتت عناصرها تُستخدم للتشبيه. لا يقولون مثلاً إن العلم كالورود أو الشمس. لا يحسنون استخدام الأبجدية. يفكّر أنه لن يحسن استخدامها أيضاً. حين يتعلمها جميعها، سيكتب أنهم قتلوا أمه حين كانت تسقي النبتة الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة على شرفة منزلهم. وقتلوا والده الذي حملها متوجهاً إلى المستشفى القريب. وحين يتعلّم الحساب، سيكتشف أنهم قتلوا والدته مرتين، وقتلوه ثلاث مرات. وفي صفوف أعلى، ستكون النتيجة مفاجئة حين يعرف أنهم قتلوه ملايين المرات، ربما في كل لحظة يتذكر فيها والديه. ها هو يعود إلى ملايينه. يبدو أن الأمر ليس صدفة.
"ط، ظ، ع، غ، ف، ق.."، أي طائرات وظلم وعويل وغربة وقصف وفرار.. بات قادراً على إيجاد مفردات لكل حرف. ويستطيع أن يرفقها برسوم جميلة. لم يكن أمياً يوماً. عرف لغة الكبار قبل الأوان. حكى مثلهم حتى وثقوا به فصار يستحقّ حمل السلاح. أتقن لغتهم. لم يكن ليتلعثم أبداً كما لو أنه وُلد راشداً. لكن الجميع يقولون إنه أميّ، ويجب أن يذهب إلى المدرسة. كيف يكون أمياً وهو قادر على إعالة أسرة؟
"اليونيسيف" وغيرها من المنظمات تصفه بـ "الأمي" لأنه لم يدخل المدرسة، وهذا تعريف علمي بطبيعة الحال. لا بأس. ليس لديه الوقت لخوض نقاش معهم. أصلاً عاد إلى المدرسة وشارف على اتقان الأبجدية. وصار يغني: "ألف باء بوباية.. قلم رصاص.." ويبكي. حتى لو أتقن الحساب، لن يعرف أبداً عدد الرصاصات التي أرعبته.