في جديده "أولغ"، قدّم الليتواني يوريس كورزياتيس (1983) وجهًا آخر، شديد الذكاء، لقضية الهجرة والمهاجرين. هذه المرة، الأمر لا يتعلّق بالفقراء، القادمين في قوارب الموت من القارة الأفريقية، أو بغيرهم من المضطهدين أو الفارّين من حروب بلدان آسيوية أو أميركية لاتينية. فأولغ (فالنتين نوفوبولسكي) لم يصل إلى القارة الأوروبية تهريبًا، بل بطريقة شرعية، وعلى متن طائرة. لذا، عُومِلَ أمنيًا بكلّ تقدير واحترام، أولاً كأوروبيّ، وإنْ من خارج دول الاتحاد الأوروبي، وثانيًا كصاحب عَقد عمل رسمي، قَدِمَ على أساسه إلى بلجيكا للعمل في أحد مصانع اللحوم.
يعرض "أولغ" نوعًا آخر من الهجرة، يتمثّل بالهجرة الداخلية، أي في القارة نفسها، وبطريقة شرعية، بحثًا عن فرص أفضل للحياة والعمل. لكن، رغم مشروعية العمل والإقامة، ورغم البشرة البيضاء، وسيادة القانون وتطبيقه الصارم في دول الاتحاد الأوروبي تحديدًا، فإنّ لتلك الهجرة تبعاتها الرهيبة، التي يصعب تخيّلها: عنصرية وعنف وهضم حقوق واضطهاد وسرقة هويات وتزوير وسطو، و"جرائم" كثيرة غيرها.
المثير للانتباه أنّ القواسم المشتركة بين المهاجرين شديدة التشابه، بل التطابق، سواء فيما يتعلّق بالبحث الشاقّ عن فرص عمل، أو النوم في الشوارع، أو حاجز اللغة، أو تقزّز وخوف "أهل البلاد" منهم؛ أو بالنسبة إلى نمط العيش. فغالبيتهم الساحقة تعيش بالحدّ الأدنى، لإرسال الجزء الرئيسي من الراتب إلى الأهل، أو لتسديد الديون. التحالفات القبلية، والخوف من أبناء الجنسيات الأخرى، أو من المنافسة، أمور حاضرة أيضًا، كذلك إقامة عشرات الأشخاص معًا في المكان نفسه، توفيرًا للنفقات. هذا يولِّد مشاكل لا حصر لها، لاختلاف الطباع والعادات والشخصيات واللغات واللهجات.
أمور كهذه، وغيرها أيضًا، تؤكّد أنّ الهجرة ومشاكل المهاجرين ليست حكرًا على بشرة أو عرق أو دين أو جنسية محدّدة.
أولغ عامل بسيط وطيّب ومتواضع للغاية. لا خبرة له خارج مجال عمله في اللحوم. غادر ليتوانيا للعمل في مصنع لحوم بلجيكي. إنّها المرة الأولى التي يغادر فيها بلده. لا يتحدّث الفرنسية، لكنه يعرف جُملاً إنكليزية قليلة للغاية. ماهر في عمله، وملتزم وأمين. ذات يوم، يتّهمه زميله البولندي السكّير كشيشتوف (آدم شيشكوفسكي) بأنّه سبب إصابته أثناء العمل، وبَتْر إصبعه، ما أدّى إلى طرد أولغ من المصنع، فيقع في ورطة، لأن إقامته مرتبطة بعقد العمل في هذا المصنع. ووفقًا لقوانين الاتحاد الأوروبي، لا يحقّ له عملاً آخر، غير الذي قَدِم لأجله.
بسبب حظه العاثر، وقع أولغ فريسة بولنديّ آخر، على صلة بكشيشتوف.
في البداية، بدا أمامه طيّبًا ومتسامحًا جدًا، كما عرض عليه استخراج جواز سفر أوروبي. أخبره أنّه بجواز السفر البولندي سيكون مواطنًا أوروبيًا، ويمكنه العيش والعمل بحرية في بلجيكا. تدريجيًا، تُكتشف شخصية أندزاي (دافيد أوغرودنيك): قوّاد ولص وزعيم عصابة، وهارب من البوليس البولندي. يصطاد أندزاي ضحاياه من العمال البائسين، من ليتوانيا ولاتفيا ورومانيا، وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية. يُصادر هواتفهم وأموالهم وهويّاتهم. يُعاملهم بمزاجية شديدة. يعملون لصالحه من دون أجر. في المقابل، يؤيهم في فيلا قيد الإنشاء، يسكن هو فيها أيضًا. يجعلهم ينامون في أي مكان كيفما اتفق، ويطعمهم ممّا يسرقونه له.
ذات يوم، يفرّ أولغ من الفيلا، لعدم حصوله على أجره، الذي يُرسِل معظمه إلى جدّته في لاتفيا، تسديدًا لديونه ولنفقات عيشها. سوء الأحوال الجوية، والتشرّد في مدن بلجيكية، ونظرة الناس إليه في الشوارع، وصعوبة الحصول على عمل، تُصيبه باليأس. مشهد وقوفه في إحدى الساحات مع آخرين، انتظارًا لمن يبحثون عن عمّال تُدفع لهم أجور يومية، قاسٍ ومُذلّ. في النهاية، يعود مرغمًا إلى فيلا أندزاي، فيُسيء الأخير إليه كثيرًا. تتعقّد المسارات، ويزداد التشويق، الممتزج بقسوة ومرارة غير مُحتَمَلين.
قوّة تأدية شخصية أولغ، الهادئة والمستسلمة لقدرها؛ وكذلك شخصية أندزاي، السكّير والسادي، المرسومة ببراعة شديدة، أضافتا الكثير على القصّة المأساوية، المأخوذة أساسًا عن قصّة حقيقية، لم تحدث في بلجيكا، كشفتها إحدى الصحف الأوروبية.
ذكاء المُخرج يوريس كورزياتيس تجلّى في نقل الأحداث إلى بروكسل، أي إلى القلب السياسي والاقتصادي لأوروبا، ولمفوضية الاتحاد الأوروبي، حيث تُتّخذ القرارت الخاصة بهما، وبسياساتهما الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وأيضًا، حيث مستوى المعيشة مُرتفع نسبيًا، مُقارنة ببلدان أوروبية عديدة.
لكن، ورغم قوّة الأداء والسيناريو وتطوّر الأحداث والتشويق، كادت الرؤية الإخراجية تُفسد "أولغ" (2019)، لأسبابٍ غير مفهومة كثيرًا. فنيًا، أكْثَرَ كورزيتيس من الحركة العشوائية للكاميرا المحمولة، من دون أي مبرر. وركّز كثيرًا، خاصة في لقطات قريبة جدًا، على وجه أولغ. هذا يُمكن تمريره مع الانغماس في درامية الأحداث وقوّة الأداء. لكن، يصعب تمرير الإطار الروحانيّ أو الديني، الذي أراد كورزياتيس تغليف فيلمه به، وإلباسه لبطله.
في مشهد الافتتاح، حيث البياض الثلجي، يظهر أولغ في عمق الـ"كادر"، نائمًا فوق الثلج المتجمّد لإحدى البحيرات، قبل أن يسقط في المياه. لقطة توحي بحلم، وبما هو سماوي أيضًا. وعلى شريط الصوت، تُروى قصّة الحمل والفداء. هناك مُقارنة أو تشبيه صريح لأولغ وحياته، بالتضحية والفداء، وصبر النبي أيوب، لاحقًا. هذا كلّه مؤكّد في مشهد الختام، الضعيف جدًا، لكن المتماشي ورؤية المخرج، وسياق الفيلم، وشخصياته المتدينة. فالختام دينيّ، يربط عودة أولغ إلى بلده بنجاته من الغرق في البحيرة الثلجيّة، وذلك بخروجه من المياه في حضرة قساوسة، وتقبيله إيقونة، في إيحاء يشير إلى تعميده مُجدّدًا.