21 يوليو 2024
"الألكسو".. صراع من أجل البقاء
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) هي أم المنظمات العربية المتخصصة وأعرقها. كان ميلادها في 25 يوليو/ تموز 1970، تنفيذا للمعاهدة الثقافية التي أبرمتها الدول العربية سنة 1945، أي في السنة التي بعثت فيها جامعة الدول العربية. وفي إبريل/ نيسان 1964، صادقت الدول العربية في بغداد على ميثاق الوحدة الثقافية العربية، استجابة للشعور بالوحدة الطبيعية بين أبناء الأمة، وإيمانا بأن وحدة الفكر والثقافة هي الدعامة الأساسية التي تقوم عليها الوحدة العربية.
وتعزيزا لهذه الحتمية القومية النبيلة، نصت المادة الثالثة من ميثاق الوحدة الثقافية العربية "على تطوير الأجهزة الثقافية في جامعة الدول العربية (الإدارة الثقافية ومعهد المخطوطات العربية ومعهد الدراسات العربية) إلى منظمةٍ واحدةٍ، تشملها جميعها في نطاق الجامعة، تسمى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وفقا لدستور يقرّه مجلس الجامعة، بناء على مقترحات المؤتمر الثاني للوزراء العرب للمعارف والتربية والتعليم، وقد ألحق مكتب تنسيق التعريب في الرباط بالمنظمة.
وكان مقر المنظمة الدائم القاهرة، وقد شهدت توسعا محمودا في اختصاصات إداراتها وأجهزتها الخارجية. وانتقلت في العام 1979 إلى تونس، بموجب قرار قمة بغداد التي علقت عضوية مصر، بعد الزلزال الذي أحدثته مبادرة الرئيس أنور السادات بتوقيعه منفردا معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وخطابه في الكنيست الإسرائيلي.
وفي تداخل الذاتي بالموضوعي، أذكر أنني في سبتمبر/ أيلول 1979، كنت المحرر الثقافي لصحيفة "بلادي"، وأنا حديث التخرج من كلية الآداب في الجامعة التونسية، وكلفتني إدارة الصحيفة بأن أجري حديثا مع مدير عام "الألكسو"، الدكتور محي الدين صابر، وقد استقرت المنظمة، في الأشهر الأولى من انتقالها إلى تونس، في فندق في العاصمة. وكانت تلك المرة الأولى التي التقي فيها الدكتور صابر، ولم أكن أعرفه من قبل، ولم تكن صورة "الألكسو" في ذهني واضحة، لكن الأقدار شاءت وأنا أسلّم عددا من الصحيفة الذي نشر فيه حديث المدير العام أن فاجأني باقتراح العمل في المنظمة مسؤولا عن الإعلام. وفعلا بدأت رحلتي في المنظمة الثقافية العربية، والتي انتقلت بعد أسابيع إلى مبنى أجّرته الحكومة التونسية، وهو المقر الذي استقرت فيه، إلى حين انتقالها إلى صرحها الجديد الحالي.
دخلت "الألكسو" شابا يافعا، وغادرتها بعد أكثر من ثلاثين سنة، وأنا على مشارف الستين. وكنت سعيد الحظ أن اكتسبت في هذه المنظمة القومية الخبرة الواسعة في مجالات العمل المشترك، فقد تقلدت مناصب عديدة فيها، من المسؤول الإعلامي إلى مدير ديوان، والأمين العام للمجلس التنفيذي والمؤتمر العام، وصولا إلى مدير الموسوعة العربية الكبرى لأعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين، علاوة على الإسهام في الإعداد والتنظيم لعشرات المؤتمرات والندوات المتخصصة التي عقدتها المنظمة في دولة المقر، أو على امتداد الوطن العربي.
انتقلت المنظمة من القاهرة إلى تونس بدون وثائق، وبعدد قليل جدا من الخبرات والموظفين، إلا أنها وجدت رجالا وقفوا صادقين، فقدّموا الوثائق والخبرة والجهد، ما هيأ لانطلاقة جديدة في مقر متواضع، لكنه أصبح بيت خبرة عربية وبؤرة إشعاع للمشاريع والاستراتيجيات والمؤتمرات والإصدارات والموسوعات.
والحق يقال، شهدت "الألكسو" عبر تاريخها الطويل إشراقاتٍ، وعرفت فترات سكون وركود، وذلك حسب الزمن العربي المتقلب، وعلى قدر عزم المسؤولين القادة الذين تعاقبوا عليها، فترات مدّ وجزر، وسينصف التاريخ الذين عملوا صالحا أعمالا ستخلّد ذكرهم في سجل الغيورين على ثقافة هذه الأمة العظيمة، ورقيها المعرفي والحضاري.
وقد تعاقب على قيادة هذه المنظمة رجالٌ أفذاذ، بينهم محي الدين صابر، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا ومؤسس الاستراتيجيات الكبرى التي وضعتها المنظمة، وفي طليعتها استراتيجية تطوير التربية العربية، والاستراتيجية العربية للثقافة، والاستراتيجية العربية لمحو الأمية، والتاريخ العربي الكبير، وغيرها من الأعمال الباقية، والتي أسهم في وضعها مفكرون ومبدعون قوميون، منهم عبد العزيز حسين من الكويت، ومحمود المسعدي من تونس، وشاكر مصطفى وشاكر الفحام من سورية، وناصر الدين الأسد من الأردن، ومحمد عابد الجابري من المغرب، وغيرهم.
كما استطاعت "الألكسو" أن تؤسس شبكة لها من المكاتب والمعاهد والمراكز عبر الوطن
العربي، ومنها مركز تنسيق التعريب في الرباط، ومعهد البحوث والدراسات العربية، ومعهد المخطوطات العربية في القاهرة، ومعهد الخرطوم لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. كما نشطت "الألكسو" في النشر المتخصص، وأصدرت المجلات الدورية المحكّمة، وأشهرها المجلة العربية للتربية، والمجلة العربية للثقافة، والمجلة العربية للعلوم، وموسوعة علماء العرب والمسلمين، وصولا إلى سلاسل الفن التشكيلي العربي الحديث، ومشروع النهوض باللغة العربية.. يضاف إلى ذلك حضورها الدائم والفاعل في المؤسسات الدولية، على غرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو) ومكتب التربية العربي لدول الخليج.. يضاف إلى ذلك كله، لم يغب الدعم الثقافي والتربوي لفلسطين، عن اهتمامات المنظمة. وفي عهد مديرها العام التونسي المنجي بوسنينة، أشرفت "الألكسو" على منظومة حوار الحضارات، ووضعت الوثائق المتخصصة في ذلك، ونسقت للثقافة العربية ضيف شرف في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب سنة 2003 وغيره. وتميزت هذه الفترة بسلسة المعاجم المتخصصة في كل مجالات المعرفة التي كان يصدرها مكتب الرباط للتعريب، بالتنسيق مع مجامع اللغة العربية.
وكانت استجابة الدول الأعضاء مميزة، وكان تفاعل الجهات المتخصصة فيها واضحا، كما كانت آليات التنسيق بين الأمانة العامة لجامعة الدول العربية و"الألكسو" متينة ومنتظمة، ما جعل هذه المنظمة العتيدة تصبح بيت خبرة عربية، تقدم الخبراء ورجال الاختصاص لكل الدول العربية، خصوصا ذات الاحتياجات والأولوية التربوية والثقافية منها، ما جعل الوطن العربي يتصدّى للأمية، وينجح في الحد من انتشارها. وقد توّجت تجارب عربية في هذا المجال على مستوى دولي رسمي، وعلى مستوى المنظمات المتخصصة، كاليونسكو.
واليوم، لم تعد مجالات العمل العربي المشترك، التربية والثقافة والمعرفة، أولوية فيها. اتجه العرب إلى الصراعات والحروب والتسلح، وحرفوا مسار "الألكسو" عن أداء رسالتها التاريخية والحضارية، فتراجع إشعاعها وانحسر جهدها، للأسف، في الصراع من أجل البقاء، فلم تعد بيت خبرة، ولا قاطرة معرفة، ولا مركز إشعاع تربوي وثقافي وعلمي. .. ويبقى السؤال: إلى أي مدى ستقدر هذه المنظمة العربية المتشركة على مواصلة الاضطلاع بدورها النبيل الذي أحدثت من أجله، في ظل شح المال العربي، وتراجع اهتمام الدول الأعضاء بها، وجمود العمل العربي المشترك؟ وهل في وسع المدير العام الحالي، سعود هلال الحربي، أن يعيد إلى المنظمة بريقها وفاعليتها؟
وتعزيزا لهذه الحتمية القومية النبيلة، نصت المادة الثالثة من ميثاق الوحدة الثقافية العربية "على تطوير الأجهزة الثقافية في جامعة الدول العربية (الإدارة الثقافية ومعهد المخطوطات العربية ومعهد الدراسات العربية) إلى منظمةٍ واحدةٍ، تشملها جميعها في نطاق الجامعة، تسمى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وفقا لدستور يقرّه مجلس الجامعة، بناء على مقترحات المؤتمر الثاني للوزراء العرب للمعارف والتربية والتعليم، وقد ألحق مكتب تنسيق التعريب في الرباط بالمنظمة.
وكان مقر المنظمة الدائم القاهرة، وقد شهدت توسعا محمودا في اختصاصات إداراتها وأجهزتها الخارجية. وانتقلت في العام 1979 إلى تونس، بموجب قرار قمة بغداد التي علقت عضوية مصر، بعد الزلزال الذي أحدثته مبادرة الرئيس أنور السادات بتوقيعه منفردا معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وخطابه في الكنيست الإسرائيلي.
وفي تداخل الذاتي بالموضوعي، أذكر أنني في سبتمبر/ أيلول 1979، كنت المحرر الثقافي لصحيفة "بلادي"، وأنا حديث التخرج من كلية الآداب في الجامعة التونسية، وكلفتني إدارة الصحيفة بأن أجري حديثا مع مدير عام "الألكسو"، الدكتور محي الدين صابر، وقد استقرت المنظمة، في الأشهر الأولى من انتقالها إلى تونس، في فندق في العاصمة. وكانت تلك المرة الأولى التي التقي فيها الدكتور صابر، ولم أكن أعرفه من قبل، ولم تكن صورة "الألكسو" في ذهني واضحة، لكن الأقدار شاءت وأنا أسلّم عددا من الصحيفة الذي نشر فيه حديث المدير العام أن فاجأني باقتراح العمل في المنظمة مسؤولا عن الإعلام. وفعلا بدأت رحلتي في المنظمة الثقافية العربية، والتي انتقلت بعد أسابيع إلى مبنى أجّرته الحكومة التونسية، وهو المقر الذي استقرت فيه، إلى حين انتقالها إلى صرحها الجديد الحالي.
دخلت "الألكسو" شابا يافعا، وغادرتها بعد أكثر من ثلاثين سنة، وأنا على مشارف الستين. وكنت سعيد الحظ أن اكتسبت في هذه المنظمة القومية الخبرة الواسعة في مجالات العمل المشترك، فقد تقلدت مناصب عديدة فيها، من المسؤول الإعلامي إلى مدير ديوان، والأمين العام للمجلس التنفيذي والمؤتمر العام، وصولا إلى مدير الموسوعة العربية الكبرى لأعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين، علاوة على الإسهام في الإعداد والتنظيم لعشرات المؤتمرات والندوات المتخصصة التي عقدتها المنظمة في دولة المقر، أو على امتداد الوطن العربي.
انتقلت المنظمة من القاهرة إلى تونس بدون وثائق، وبعدد قليل جدا من الخبرات والموظفين، إلا أنها وجدت رجالا وقفوا صادقين، فقدّموا الوثائق والخبرة والجهد، ما هيأ لانطلاقة جديدة في مقر متواضع، لكنه أصبح بيت خبرة عربية وبؤرة إشعاع للمشاريع والاستراتيجيات والمؤتمرات والإصدارات والموسوعات.
والحق يقال، شهدت "الألكسو" عبر تاريخها الطويل إشراقاتٍ، وعرفت فترات سكون وركود، وذلك حسب الزمن العربي المتقلب، وعلى قدر عزم المسؤولين القادة الذين تعاقبوا عليها، فترات مدّ وجزر، وسينصف التاريخ الذين عملوا صالحا أعمالا ستخلّد ذكرهم في سجل الغيورين على ثقافة هذه الأمة العظيمة، ورقيها المعرفي والحضاري.
وقد تعاقب على قيادة هذه المنظمة رجالٌ أفذاذ، بينهم محي الدين صابر، عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا ومؤسس الاستراتيجيات الكبرى التي وضعتها المنظمة، وفي طليعتها استراتيجية تطوير التربية العربية، والاستراتيجية العربية للثقافة، والاستراتيجية العربية لمحو الأمية، والتاريخ العربي الكبير، وغيرها من الأعمال الباقية، والتي أسهم في وضعها مفكرون ومبدعون قوميون، منهم عبد العزيز حسين من الكويت، ومحمود المسعدي من تونس، وشاكر مصطفى وشاكر الفحام من سورية، وناصر الدين الأسد من الأردن، ومحمد عابد الجابري من المغرب، وغيرهم.
كما استطاعت "الألكسو" أن تؤسس شبكة لها من المكاتب والمعاهد والمراكز عبر الوطن
وكانت استجابة الدول الأعضاء مميزة، وكان تفاعل الجهات المتخصصة فيها واضحا، كما كانت آليات التنسيق بين الأمانة العامة لجامعة الدول العربية و"الألكسو" متينة ومنتظمة، ما جعل هذه المنظمة العتيدة تصبح بيت خبرة عربية، تقدم الخبراء ورجال الاختصاص لكل الدول العربية، خصوصا ذات الاحتياجات والأولوية التربوية والثقافية منها، ما جعل الوطن العربي يتصدّى للأمية، وينجح في الحد من انتشارها. وقد توّجت تجارب عربية في هذا المجال على مستوى دولي رسمي، وعلى مستوى المنظمات المتخصصة، كاليونسكو.
واليوم، لم تعد مجالات العمل العربي المشترك، التربية والثقافة والمعرفة، أولوية فيها. اتجه العرب إلى الصراعات والحروب والتسلح، وحرفوا مسار "الألكسو" عن أداء رسالتها التاريخية والحضارية، فتراجع إشعاعها وانحسر جهدها، للأسف، في الصراع من أجل البقاء، فلم تعد بيت خبرة، ولا قاطرة معرفة، ولا مركز إشعاع تربوي وثقافي وعلمي. .. ويبقى السؤال: إلى أي مدى ستقدر هذه المنظمة العربية المتشركة على مواصلة الاضطلاع بدورها النبيل الذي أحدثت من أجله، في ظل شح المال العربي، وتراجع اهتمام الدول الأعضاء بها، وجمود العمل العربي المشترك؟ وهل في وسع المدير العام الحالي، سعود هلال الحربي، أن يعيد إلى المنظمة بريقها وفاعليتها؟
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023