"الأممية العاشرة" صناعة سورية

24 أكتوبر 2015

من عرس سوري جماعي في دمشق لجنود النظام (29أبريل/2014/Getty)

+ الخط -
على الرغم من الموت، والخراب الممعن في مفاصل الدولة السورية والمجتمع السوري والبيت السوري والفرد السوري، ما زالت هناك بقية من روح تهكمية، ومحاولة لتجاوز اليأس والقنوط وفقدان الأمن والأمان والأمل والرجاء، بالفكاهة والسخرية المرة والكوميديا السوداء المرتجلة في واقع أكثر سواداً. يقدّم "فيسبوك" صورة آنية لهذا الواقع، فهو يمور بالنشاط العفوي في معظمه، والمنظم والموجّه في بعض جوانبه، لكن الفضاء اللامحدود والحرية التي يمنحهما لرواده يجعلان منه مرآة تعكس الحياة بعفويتها وتلقائيتها، بلا ترتيب أو تدخل أو مونتاج، ويمكن للمتابع رصد نبض الشارع والحياة، والتعرف على المشكلات والتصدعات التي يعاني منها المجتمع السوري. ومن بين هذه المشكلات أو الهموم الحياتية، والوجودية أيضاً، موضوع الزواج في سورية، بعد أن أصبحت هناك مشكلات قد تكون معضلات حقيقية، لا يمكن التنبؤ حالياً بكيفية تناولها ودراستها وتنظيمها، وفق حلول قابلة للتطبيق، لما لهذا الموضوع من خصوصية وإشكالية مركبة، تتدخل فيها أعداد كبيرة من النواظم، بين اجتماعية ودينية وعرفية وتقليدية وثقافية، وحالياً سياسية، وهو أمر صار يتصدر قائمة الأولويات، بعد تحوّل الحراك الشعبي السوري الطامح إلى ثورة حقيقية على كل الصعد إلى حرب شرسة، كرّست بنية مجتمعية مخلخلة بالنزعة الثأرية والانتقامية ومظلوميات عدة، بالإضافة إلى الخلل الذي تركه فقدان شبابٍ كثيرين في الحرب، بين ضحية ومفقود ومعاق وفارّ ولاجئ ومهجّر، وذلك بنقصان عدد الشباب المرشحين للزواج وتكوين أسرة، حتى بين من بقوا خارج هذه التصنيفات، فمتطلبات الزواج صارت مكلفة، حدّ عجزهم عن الإقدام على مشروع مصيري من هذا النوع. بينما ازداد عدد الشابات في عمر الزواج، وازداد عدد الأرامل الصبايا أيضاً.
عبرت عن هذا الواقع المرّ المظلم والظالم صديقة في صفحتها على "فيسبوك"، بعد أن صارت رؤية الجنود الروس في شوارع اللاذقية أمراً مألوفاً، وهم يرتادون الأسواق أو المحلات التجارية في استراحاتهم، عندما قالت: سألني سائل: صحيح امتلأت اللاذقية بالشباب والشابات الروس؟ أجبت: من ناحية الشابات، لا حاجة لنا بهن، فقد أصبح هناك ست فتيات مقابل شاب واحد في سورية. أما من ناحية الشباب. فا والله لا أعرف!
سخرية مرّة من واقع أكثر مرارة تصنعه السياسة. يصنعه اللاعبون في المصير السوري وصانعو الأقدار السورية بتواطؤات وتحالفات شيطانية، تلعب لعبة المصالح فوق أرضنا بدمويةٍ لا ترحم، كما لم يرحم العالم شعبنا.
هي معضلة حقيقية، وظاهرة تنمّ عن معاناة تكبر مع الزمن، تلامس الجوهر الإنساني، تحاصر الطبيعة البشرية الضاجة بالحياة، والتي هي من حق كل كائن حي، فكيف إذا كان هذا الكائن من مرتبة إنسان؟ هي تكتم نداء الحياة والغريزة وتغلق الأبواب أمامها إلى الأنساق التي أنشأها المجتمع البشري، ونظم حياته بموجبها، بل إنها تعرقل حتى إمكانية الحب بعيداً عن الأنساق والنظم الاجتماعية والقانونية والتنظيمية، بكل أشكالها. هناك، في الأماكن التي تسيطر عليها الكتائب الإسلامية، والتي تدير الحياة فيها محاكم شرعية، تبدو المشكلة أقل تعقيداً لهذه الناحية، لكنها، في الوقت نفسه، أقل إنسانية بما تحمل من إجراءات تحط من شأن المرأة، وذلك بتحويلها إلى ما يشبه السلعة، لا تملك حق الإرادة الذاتية وتقرير المصير، فهي رقم بين عدد من الزوجات، وهي طفلة زوجة، وهي ملك يمين في بعض الحالات، فكيف يمكن تدبّر معضلة تكبر مع الزمن في القادم من الأيام، فيما لو وقفت آلة الحرب عن حصد النفوس وحرق الأرواح السورية؟
في المقابل، عبّرت صديقة على صفحتها أيضاً بصيغة تهكمية عن واقع الشباب السوري الذي
يعاني من أزمة الارتباط، ومن أزمة الهوية فيما مضى وفي الوقت الحالي، فقد قالت بعامية ظريفة: شبابنا سافروا عا ألمانيا وبكرا بياخدوا ألمانيات، ونحنا الجيش الروسي صار عنا، بكرا مناخد روس وبدل (عربي.سوري) منصير (سوري.ألماني) (سوري.روسي). بهذه السخرية المرة، تعبّر الفتاة السورية، ربما بعفوية، ومن دون تثاقف أو خطاب تحليلي أو أسلوب جاد وجامد عن شواغل عديدة ومهمة، تشغل الذهن السوري والوجدان الجمعي السوري.
بدأ موضوع الزواج مشكلة تفرض نفسها وتظهر أعراضها، من ناحية. ومن ناحية أخرى، تطرح مشكلة الهجرة السورية المحزنة والمخزية، وهي قسرية حتى لو بدت، في ظاهرها، خيارات حرة للشباب السوري، لكنها خيار قسري فرضته الحرب بشكل مباشر، وذلك هروباً من الموت المحتم، وبشكل غير مباشر، بحثاً عن المعنى والهدف في وطن ضاع وضاعت معه المعاني والأهداف. كما تلمّح إلى الوجود الروسي في سورية، وما يستبطن الكلام من معنى يدلّ على الاتحاد العضوي بين الوجود العسكري الروسي في سورية والكيان السوري، وما يمكن أن ينجم من هذا الاتحاد/ الزواج من ولادات مستقبلية.
والمعنى الآخر الذي يستبطنه الكلام العفوي هو الجنسية السورية. هذه الإشكالية التي كانت أحد أهداف انتفاضة الشعب السوري، وأحد أهم المطالب التي طالبت بها شريحة كبيرة منه، التحرّر من هيمنة القومية الشمولية الواحدة، تحقيق المواطنة السورية في ظل دولةٍ مدنية تقوم على المواطنة الضامنة للحقوق والمساواة والعدالة، الجنسية العربية السورية التي سعى النظام إلى تكريسها انتماءً وحيداً، تذوب فيه كل الانتماءات القومية الأخرى، على الرغم من تعددية المجتمع السوري التاريخية. فبهذا الزواج المغاير، سوف تتحقق المساواة والعدالة: سوري روسي، سوري ألماني، ويمكن تعداد قوميات أخرى كثيرة، بحسب البلدان التي لجأ إليها السوريون في تغريبتهم السوريالية، لكن الجميل في الكلام، وفي عفويته، أنه يرتب المعنى، كما يجب أن يكون: سوري أولاً يحلّ محل اللازمة السابقة: عربي. ثم تلحقه الصفة الأخرى/ألماني، روسي، فرنسي، هولندي، تركي، كردي.... وكثير غيرها.
هل يمكن البناء على النتائج المستقبلية التي يمكن أن يتمخض عنها هذا المخاض العسير والمكلف؟ وهل سيكون هناك جيل يعتصر تجربته المريرة والباهظة، ويستخلص منها أساس ثقافته البديلة التي يبني عليها، ويؤسس لوطن يحمل ملامح الحلم الذي ثار من أجله، الوطن المدفوع الثمن مسبقاً؟ هل ستُنجز سورية الدولة المدنية المتجاوزة لكل عثراتها السابقة، والمعافاة من أمراضها المزمنة والحادة التي سببتها الحرب؟ أم هو حلم طوباوي، يقترب من الحلم بأممية "عاشرة" في مستقبل بعيد، يكون صناعة سورية بامتياز؟ سورية التي غزتها كل قوى العالم، وقاتل على أرضها مقاتلون من كل جنسيات الأرض، وجرت على أرضها، وبحق نسائها، كل أشكال الزواج البشري، شرعي وغير شرعي، إنساني وغير إنساني، أخلاقي وغير أخلاقي، وتهافتت عليها كل أنظمة الأرض؟ لم تعد اللعبة لعبة أسماء أو قوميات أو انتماءات، إنها حرب وجود، ونضال وكفاح لأجل الوجود.