16 أكتوبر 2024
"الاتحاد الاشتراكي" المغربي بين جثتين
خلّد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، الذكرى الستين لما يُفترض أنه تاريخ تأسيس الحزب، وتزامنت ذكرى هذا العام مع ذكرى حزينة اعتاد مناضلو الحزب تخليدها يوم 29 أكتوبر/ تشرين الأول من كل سنة، وتتعلق بحادث اختفاء المعارض السياسي المهدي بن بركة واغتياله عام 1965 في فرنسا في ظروف ما تزال غامضة. والواقع أن تاريخ الحزب هو تاريخ انشقاقاته التي بدأت منذ التأسيس الذي نتج من انشقاق عن حزب الاستقلال، أعطى في البداية حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يترأسه بن بركة، وظل على رأسه حتى تاريخ اختطافه واختفائه الأبدي، ليتولى عبد الله إبراهيم رئاسته إلى أن وافته المنية عام 2005. أما "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الحالي فرأى النور عام 1975، بعد مؤتمر استثنائي دعا إليه المنشقون من "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" بزعامة عبد الرحيم بوعبيد. ولذلك فـ "الاتحاد" الحالي الذي أٌعلن عن تأسيسه قبل 44 سنة ليس هو "اتحاد" عام 1959 الذي ظل يجسّده عبد الله إبراهيم، وليس هو "الخيار الثوري" الذي كان يتبناه المهدي بن بركة.
الحزب الذي خرج من تحت عباءة المؤتمر الاستثنائي المنعقد عام 1975 جاء أصلا ليضع
قطيعة مع "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، ومع "الخيار الثوري" لرفاق بن بركة، عندما اختار ما سميت استراتيجية النضال الديمقراطي، واضعا حدّا لتاريخ طويل وقاسٍ ودامٍ من الصراع بين الحزب والقصر الملكي. وعندما يَحتفي "الاتحاديون" اليوم بالذكرى الستين لتأسيس حزبهم إنما يذكّرون بتاريخ الانشقاقات التي مزّقت الأحزاب السياسية المغربية منذ لعنة التأسيس الأولى، وما زالت تنخر ما تبقى من إرث الحزب الذي كتب عليه أن تتجاذبه النزعات الفردية لزعاماته، حتى ينتهي نسيا منسيا، كما انتهت أحزاب أخرى عبرت الساحة السياسية المغربية، ولم يعد لأثرها أي ذكر بين الناس.
ومن يقرأ مسار الحركة "الاتحادية"، منذ تاريخ الخروج الأول إلى الوجود عام 1959، مرورا بلحظة التأسيس لخيار الحزب الإيديولوجي عام 1975، سيجد نفسه أمام أكثر من حزب "اتحادي"، الرابط الوحيد بينهما هو تاريخ الانشقاق الذي يَنتج عنه انشقاقٌ جديد، حتى بات دم العائلة الاتحادية اليوم موزّعا بين عدة أحزاب يسارية صغيرة، تفرّق بينها نزعات زعمائها الشخصية، في حين أن كل واحد منها يدّعي أنه هو الحامل لإرث "الاتحاد الأول" الذي تخلى عنه منافسه وخصمه في الحزب الآخر.
ومنذ لحظة التأسيس الأولى، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، انتقل خلالها الحزب من مرحلة النضال الذي كان يؤمن بالعنف الثوري سبيلا للتحرّر وبناء الدولة الديمقراطية إلى مرحلة النضال الديمقراطي لإحداث التغيير من داخل بنية الدولة، وانتهاء بمرحلة الاندماج والذوبان الكلي داخل المؤسسات، بعد أن نجحت الدولة في تغيير الحزب، بدلا من أن يغيرها. وطوال هذا المسار الحافل بالصدام والنضال والتضحيات، أدى "اتحاديون" كثيرون الثمن غاليا من أرواحهم ومن حرياتهم. وفي الوقت نفسه، استفاد آخرون من العائلة نفسها، وخصوصا من القادة، من جني الثمار وترجمة المكتسبات التي ضحّى من أجلها شهداء الحركة الاتحادية ومناضلوها إلى مصالح شخصية وامتيازات عائلية. وعلى مستوى التنظيم، تحوّل الحزب الذي كان، حتى ماض قريب، يمثل تيارا مجتمعيا واسعا، يتحدّث باسم "القوات الشعبية" الكادحة، إلى تجمّع لأعيانٍ تلاحقهم شبهات الفساد، لا علاقة لهم بتاريخ الحزب، ولأشخاص تحرّكهم مصالحهم الشخصية قبل مبادئهم، فتراجعت الأيدولوجيا لتترك المجال فسيحا للانتهازية والوصولية التي تنخر أكثر من جسم حزبي في المغرب.
وعلى المستوى السياسي، بات الحزب، الذي قاد الحكومة المغربية عام 1998، مجرّد رقم صغير داخل المعادلة السياسية المغربية، لا ينتظر منه أن يصنع أي فارق كبير، ممثلا داخل
الحكومة الحالية بحقيبة وزارية واحدة يتيمة، وبعدد من النواب البرلمانيين، بالكاد يُكوّن عددهم النصاب القانوني لتشكيل فريق نيابي، أغلبهم من الأعيان والوافدين الجدد على الحزب، لا يعرفون تاريخه ولا علاقة لهم بخياراته الإيديولوجية التي صنعت منه في الماضي حزبا جماهيريا كبيرا.
لقد تحول الحزب الذي شكل أقوى معارضة للنظام عرفها المغرب في تاريخه الحديث إلى مجرد هيكل عظمي فارغ بلا روح ولا جسد، تنخره "دابّة السياسة" إلى أن يَخِرّ أرضا. فـ "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" الذي حمل لواء استكمال تحرير الوطن انتهى مع موت مؤسسيه، و"الخيار الثوري" الذي آمن بالعنف من أجل التغيير اختفى مع الاختفاء الأبدي لمنظّره منتصف ستينات القرن الماضي، و"الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الذي اختار النضال من داخل المؤسسات ابتلعته الدولة قبل أن يغيرها، وما تبقى اليوم من هذه التجربة هو مجرد ذكرى، أما الحزب فقد مات، وكما يقال فإن إكرام الميت دفنه.
وكم يحزّ في النفس أن يُختزل الاحتفاء بتاريخ تجربة سياسية مغربية غنية في جثتين، مع ما لكل منهما من رمزية مٌكثفة. جثة شهيد الحركة الاتحادية المهدي بن بركة الذي هُدر دمه غدرا، واتخذ بعض رفاقه من البحث عن جثته الغائبة إلى الأبد رأس مال تجاريا للمزايدة بها. وجثة الحزب نفسه الذي مات سريريا منذ سنوات، وما زال محترفو السياسة ينفخون في روحه التي أٌزهقت وإلى الأبد.
ومن يقرأ مسار الحركة "الاتحادية"، منذ تاريخ الخروج الأول إلى الوجود عام 1959، مرورا بلحظة التأسيس لخيار الحزب الإيديولوجي عام 1975، سيجد نفسه أمام أكثر من حزب "اتحادي"، الرابط الوحيد بينهما هو تاريخ الانشقاق الذي يَنتج عنه انشقاقٌ جديد، حتى بات دم العائلة الاتحادية اليوم موزّعا بين عدة أحزاب يسارية صغيرة، تفرّق بينها نزعات زعمائها الشخصية، في حين أن كل واحد منها يدّعي أنه هو الحامل لإرث "الاتحاد الأول" الذي تخلى عنه منافسه وخصمه في الحزب الآخر.
ومنذ لحظة التأسيس الأولى، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، انتقل خلالها الحزب من مرحلة النضال الذي كان يؤمن بالعنف الثوري سبيلا للتحرّر وبناء الدولة الديمقراطية إلى مرحلة النضال الديمقراطي لإحداث التغيير من داخل بنية الدولة، وانتهاء بمرحلة الاندماج والذوبان الكلي داخل المؤسسات، بعد أن نجحت الدولة في تغيير الحزب، بدلا من أن يغيرها. وطوال هذا المسار الحافل بالصدام والنضال والتضحيات، أدى "اتحاديون" كثيرون الثمن غاليا من أرواحهم ومن حرياتهم. وفي الوقت نفسه، استفاد آخرون من العائلة نفسها، وخصوصا من القادة، من جني الثمار وترجمة المكتسبات التي ضحّى من أجلها شهداء الحركة الاتحادية ومناضلوها إلى مصالح شخصية وامتيازات عائلية. وعلى مستوى التنظيم، تحوّل الحزب الذي كان، حتى ماض قريب، يمثل تيارا مجتمعيا واسعا، يتحدّث باسم "القوات الشعبية" الكادحة، إلى تجمّع لأعيانٍ تلاحقهم شبهات الفساد، لا علاقة لهم بتاريخ الحزب، ولأشخاص تحرّكهم مصالحهم الشخصية قبل مبادئهم، فتراجعت الأيدولوجيا لتترك المجال فسيحا للانتهازية والوصولية التي تنخر أكثر من جسم حزبي في المغرب.
وعلى المستوى السياسي، بات الحزب، الذي قاد الحكومة المغربية عام 1998، مجرّد رقم صغير داخل المعادلة السياسية المغربية، لا ينتظر منه أن يصنع أي فارق كبير، ممثلا داخل
لقد تحول الحزب الذي شكل أقوى معارضة للنظام عرفها المغرب في تاريخه الحديث إلى مجرد هيكل عظمي فارغ بلا روح ولا جسد، تنخره "دابّة السياسة" إلى أن يَخِرّ أرضا. فـ "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" الذي حمل لواء استكمال تحرير الوطن انتهى مع موت مؤسسيه، و"الخيار الثوري" الذي آمن بالعنف من أجل التغيير اختفى مع الاختفاء الأبدي لمنظّره منتصف ستينات القرن الماضي، و"الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الذي اختار النضال من داخل المؤسسات ابتلعته الدولة قبل أن يغيرها، وما تبقى اليوم من هذه التجربة هو مجرد ذكرى، أما الحزب فقد مات، وكما يقال فإن إكرام الميت دفنه.
وكم يحزّ في النفس أن يُختزل الاحتفاء بتاريخ تجربة سياسية مغربية غنية في جثتين، مع ما لكل منهما من رمزية مٌكثفة. جثة شهيد الحركة الاتحادية المهدي بن بركة الذي هُدر دمه غدرا، واتخذ بعض رفاقه من البحث عن جثته الغائبة إلى الأبد رأس مال تجاريا للمزايدة بها. وجثة الحزب نفسه الذي مات سريريا منذ سنوات، وما زال محترفو السياسة ينفخون في روحه التي أٌزهقت وإلى الأبد.