بقرار وزاري، حُرّمت عمليات الجَلْد في المدراس السودانية، لما لذلك من تأثيرات نفسية وجسدية على التلميذ. لكن بعض السودانيّين ما زالوا يتطوّعون للجلد رغبة منهم بذلك، وقد أدمنوه.
وكانت قبائل سودانيّة ذات أصول عربيّة، قد درجت على ما يُعرف بـ"البطان"، وهو طقس من طقوس حفلات الزفاف يتطوّع في خلاله شبان لتلقّي الجلد أمام النساء، على وقع قرع الطبول وأنغام الأغاني الحماسيّة. فيعمد العريس إلى جلد هؤلاء بالسياط، بينما تطلق النساء الزغاريد لتشجيعهم والتعبير عن إعجابهن بصمودهم.
والبطان الذي يُعدّ مظهراً من مظاهر استعراض الشجاعة والصبر والشهامة، له أصوله. فيتوجّب على المتطوّع أن يتعرّى نصفياً، وينتظر أن تلهب السياط جسده حتى يدمى. ومهما ساءت حالته، لا يمكنه الخروج من الحلبة إلا بأمر من العريس. وإن حاول أحدهم إخراج أي منهم، عليه أن يحلّ مكانه. وعموماً، يرفض المتطوعون إعفاءهم من الجلد أو الانسحاب، خوفاً من الوصمة المجتمعيّة. فهم معرّضون ليكونوا محور حديث القرية بعد عزلهم.
وقد اشتهرت قبيلة الجعليين، في شمال السودان، بالبطان وما زالت تمارسه حتى اليوم، شأنها شأن عدد من القبائل الرعويّة والعربيّة الأخرى في شمال البلاد. تجدر الإشارة إلى أن هذه العادة بدأت تختفي تدريجياً في المدن، بعدما ارتفع الوعي حول مخاطرها، لا سيّما في ما يتعلق بنقل الأمراض عبر الدم، كالإيدز مثلاً.
اقرأ أيضاً: هنود السودان.. أبناء بلد
محمد، مثلاً، تطوّع للجلد للمرة الأولى في حفل زفاف شقيقه. وبعدها درج على ذلك إلى أن ألزمه الطبيب بالتوقّف بعدما خلع كتفه. يقول: "كنت أتحاشى البطان خشية من إدمانه". لكنه أدمنه بالفعل. ويخبر أنه "في حال صادفت في طريقي حفلاً فيه جلد، أرى نفسي وقد دخلت حلبة الجلد، على الرغم من عدم معرفتي بأصحاب العرس". ويشير إلى أن ذلك يأتي كدليل صحة وشجاعة. ويروي تجربته الأولى: "وقفت في آخر الطابور، إذ كنت الأصغر سناً. وأذكر جيداً أنني لم أقوَ على النظر". ويشرح أن "السوط الأول عادة هو الذي يحدّد البقاء أو الانسحاب. بالتالي، من الضروري الثبات وعدم الإيماء". ويؤكد محمد أن "إحساساً رائعاً ينتابني في خلال الجلد، ولا أشعر بالألم إطلاقاً على الرغم من أن ظهري عادة ما يدمى". يضيف: "أذكر أنني بكيت عندما حاول أحدهم سحبي من حلبة الجلد. فذلك شكّل مهانة كبيرة لي". ويتابع محمد، وهو من حَمَلة الشهادات الجامعيّة: "ما زلت أحنّ إلى البطان. نحن نعلم أنه مضرّ، لكننا لا نستطيع منع أنفسنا عنه. هو كالحشيش والسجائر والمخدرات". ويرفض الشاب قطعاً "دمغ هذه الممارسات بالتخلّف. هي عادات تراثية ولها علاقة بالأجداد".
بالنسبة إلى الطبيب المتخصص في الأمراض النفسيّة والعصبيّة، علي بلدو، فإن أبرز الدوافع وراء البطان هو "الاعتزاز بالأصل وإعلاء شأن القبيلة والشعور بالفخر والزهو ونيل إعجاب الآخرين، لا سيّما النساء. وهو تعبير عن قيم كالمروءة والشهامة والقوة والصبر والجَلَد والتحمّل والوفاء وغيرها من الصفات النبيلة الموروثة، بالإضافة إلى أنه تواصل للتقليد الاجتماعي أو الأعراف المتوارثة عبر العصور. فالقول إن فلاناً لم يُجلد، يعني وصمة فادحة ترتبط بالجبن والبخل والخوف".
ويوضح بلدو أن "البطان يبدو وكأنه مؤلم. لكن في تلك اللحظات بالذات، يبدأ الجهاز العصبي "النباتي" بإفراز مواد تقلل من الألم وتزيد مستوى ضخ الدم في العضلات". يضيف أن الأمر قد يصل إلى "إحساس المجلود بالنشوة النفسيّة والمتعة والفرح، لدرجة إدمان الجلد. بالتالي لا يكتمل فرح الشخص أو قدرته على الحياة بصورة طبيعية ما لم يُجلد".
وينفي بلدو أن يعاني هؤلاء من مشكلات نفسية، "لكنهم غير قادرين على الخروج عن المألوف وكسر التقاليد، خوفاً من الوصمة الاجتماعية والعار".
العريس الجلاد
البطان" ظاهرة يُقصد منها إثبات الرجولة، بحسب الأستاذ المحاضر في الثقافة السودانية في جامعة الخرطوم محمد المهدي بشرى. وهو يأخذ أشكالاً مختلفة من منطقة إلى أخرى. فثمّة من يستخدم السكين بدلاً من السوط، وذلك كله للدلالة على مقدرة الشاب على تحمّل الصعاب، وتحديداً في حضور النساء. يضيف بشرى أن العريس هو من يقوم بعمليّة الجلد، باعتباره محط الأنظار في يومه الكبير. كذلك، هو الوحيد الذي يحقّ له إعفاء الشباب.
اقرأ أيضاً: قضايا السودانيين على زجاج مركباتهم