"كنا في مكانٍ ما بالقرب من بارستو، عند حافة الصحراء، حين بدأت المخدرات تنال منا". هكذا، استهل هانتر تومسون كتابه "الخوف والبغض في لاس فيغاس" عام 1971، الذي أصبحت مقدمته هذه ضمن "كلاسيكيات" تذكرها القوائم، لرجلٍ قورن بمارك توين وتيم وولف وغيرهم في ذروة إنتاجه التي دامت قرابة العقدين قبل أن تصل الحد الذي "تُلمح خلاله الموجة منكسرةً في رجوع" بتعبيره هو. وينهي الصحافي الأميركي حياته منتحراً عام 2005.
لم يخسر الكتاب يوماً مكانته، كمحاولةٍ في نوعٍ صحافي خاص (رغم تأكيد تومسون على فشل المحاولة). لكن الأمر ذاته لا يمكن أن يقال حول الاقتباس الفيلمي للكتاب، الذي حمل الاسم ذاته وأخرجه تيري غيليام عام 1998، من بطولة جوني ديب وبينيسيو ديل تورو. فبعد طول ترقبٍ لرؤية اقتباس الكتاب الذي "لا يحول للشاشة" ومحاولات فاشلة مع مارتن سكورسيزي وأوليفر ستون، واجه الفيلم ردات فعل سلبية، من النقاد ورواد الصالات على حد سواء. وتحول الفيلم تدريجياً إلى أيقونةً لفئةٍ محددة أنقذته من إخفاقه في الصالات وصنعت مجداً له في المنازل. وبقي هذا الأمر على حاله حتى العام الماضي، والأيام القليلة الأخيرة، حين بدأت الموجة بالارتفاع مجدداً، وأعيد النظر بتومسون وبالفيلم. حتى أن الكتاب ترجم إلى العربية في مصر، شباط الماضي. لكن لم؟
تبدو المصادفة التاريخية مسؤولةً عن هذا الأمر بشكلٍ مباشر. إذ إن غيليام عرض مؤخراً فيلمه الذي انتُظِر طويلاً؛ "الرجل الذي قتل دون كيشوت" مختتماً فعاليات مهرجان كان السينمائي، بعد 20 عاماً من إطلاق "الخوف والبغض"، ولا شك أن هذا التزامن وعدد السنوات الرشيق دفع عدداً من المهتمين للخروج بموضوعٍ جديد. ولا تقدم المصادفة وحدها إجابة كاملة، بطبيعة الحال. ويمكن أن نضيف إلى ما سبق سببين آخرين، يتعلق الأول بمضمون الفيلم وجمالياته، أما الثاني فهو يدور حول تومسون نفسه.
وإذا ما أردنا تغطية النقطة الأولى؛ فعلينا العودة إلى عالم الفيلم، عام 1971. فرغم أن القصة تبدو في الظاهر عن محاولة راؤول ديوك (الاسم المستعار لتومسون) تغطية سباق دراجات نارية في لاس فيغاس، تحت تأثير المخدرات، مروراً بدمار وجنونٍ يحدثه مع محاميه (الذي يأخذ اسم "د. غونزو") إلا أن الخيط المحرك الفعلي هو الهرب.
يهرب ديوك، إذن، من نهاية موجة الستينيات ومن المثالية البائسة التي علقت ذبيحةً على خطّاف الواقع، بشخوصه مثل ريتشارد نيكسون، الرئيس الأميركي يومها، والمناخ المحافظ السائد حينها. ويشدد على حقيقته كهارب حين يباعد نفسه كمتعاطٍ للمخدرات عن أقرانه، الذين اعتقدوا يوماً أنهم "يوسعون مداركهم" أو "ينشدون سلاماً وتفاهماً عالميين بثلاثة دولارات للجرعة"، ويصنف نفسه ككسيحٍ ولاجئٍ من جيل آخر.
سرعان ما يأخذ هذا الهرب منحىً آخر، حين يتوجه الاثنان إلى فيغاس لتغطية السباق وشن حملة "البحث عن الحلم الأميركي". ويبدأ هناك الرصد لتفاصيل المدينة التي لا تنام، من منظور رجلٍ أقرب إلى المجنون، يدرس المنطق الذي يغذي عصب المدينة، مثل مغناطيسٍ عملاق، ويقع هو نفسه فريسة هذا المنطق مراتٍ أخرى. ويحدث ذلك عبر مزيجٍ محكم من الملاحظات الذكية حول السياسة والثقافة السائدتين، والأفعال الطائشة كالاستهلاك المفرط والعنف. وينتهي ذلك بهروبٍ فعلي من المدينة بعد تدمير غرفتي فندق وارتكاب كل أنواع المخالفات التي يمكن ارتكابها، منهياً رحلته في المدينة الحلم.
عقدت مقارنات بين ذاك الأمس وهذا اليوم. وهو ما دأبت المقالات الجديدة على عرضه عبر عناصر مثل "البيئة المحافظة" و"الرأسمالية المتوحشة" التي لا يغفلها التعليق الاجتماعي في الفيلم، وباتت اليوم من المحاور التي تستند إليها الأصوات المناوئة لدونالد ترامب والمناخ الأميركي اليوم.
وبما أن القصة، منذ لحظة البداية حتى نهايتها، تمر عبر وعيٍ مضطرب كان على غيليام، بالتعاون مع مدير التصوير نيكولا بيكوريني، أن يقدماها عبر كل أنواع للقطات الممكنة والزوايا المائلة والتلاعب بالأبعاد والأحجام (بحسب المخدر المستعمل) وتوظيف باليت ألوان عجائبي وواسع، إضافةً إلى كل أنواع المرايا الطبيعية أو المشوهة، وطواقم من الزواحف البشرية المهتاجة وقردة السيرك.
وإذا ما كانت هذه الجماليات مستهجنةً في السابق، فإنها اليوم أكثر قبولاً، سواء لتغير في عالم الفن ذاته أو في العلاقة مع المخدرات التي بات تشريعها اليوم على رأس الأجندات الليبرالية. ولا شك أن كل ما سبق (بالإضافة إلى ميلنا، نحن البشر، إلى الاحتفاء بالأمور بعد مرور زمن على حدوثها، أو موتها) ساهم في إعادة النظر بفيلمٍ لم تغطّ عائدات السينما تكاليف إنتاجه حتى.
الرجل الذي لا يمكن احتواؤه
من المحال ذكر العمل من دون المرور مطولاً على هانتر تومسون، كشخصيةٍ فريدة من نوعها. تحتفظ شخصية تومسون حتى اليوم بفرادتها. ولا يمكن ذكر الصحافي الأميركي من دون أن تتبادر للذهن الشخصية التي غزا الصلع رأسها، وقمصانها الموردة والسيجارة ذات المبسم المتدلية من فمها وترسانتها من الأسلحة.
بدا الأمر ظالماً أحياناً، ودفع بعض دارسيه إلى القول إن قوة هذه الشخصية صعّبت دراسة أعماله وفحواها. ورغم كل هذا، فإن مقالاتٍ مثل "كيف كان تومسون ليغطي رئاسة ترامب؟"، أو "نحن بحاجة تومسون اليوم"، وجدت طريقها إلى النور. يمكن أن نتلمس جذور هذه الدعوة، ونردها إلى عام 2017، حين منع البيت الأبيض وسائل إعلام، مثل "سي إن إن" و"نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، وغيرها، من حضور مؤتمر صحافيٍ، بينما أتاح الطريق لوسائل أكثر تأييداً له مثل "بريتبارت" و"فوكس نيوز" و"بلومبيرغ". عدّ البعض تلك الخطوة تعدياً خطيراً على حرية الصحافة. وباتت "واشنطن بوست" مثلاً (التي كان لها نصيب من رثاء تومسون مؤخراً) تُروّس صفحتها بعبارة "الديموقراطية تموت في الظلام".
إن قراءةً في اعمال تومسون تُظهِر الشراسة التي تمتع بها حين تناول قضايا الرئاسة ومرشحيها، وميله إلى اللامهادنة، حين يكيل الضربات إلى المرشحين على الجهتين، الديموقراطية والجمهورية، كاشفاً كذبهم وفسادهم، ويدرس (من أرض الميدان) كل التفاصيل الصغيرة، كما فعل في "الخوف والبغض" في مسار انتخابات 72. وربما يكون هذا الدافع لأن تشارك "واشنطن بوست" و"هافينغتون بوست" و"ذا إندبندنت" وغيرها افتراضاتها، عمّا كان تومسون سيفعله اليوم، في العصر المجنون.
أكثر من ذلك، يرد شون أونيل في الـ "إي. في. كلاب" عودة الفيلم إلى حنينٍ لشخصية "الكاتب المتمرد" الذي اختفى اليوم. ويسأل إذا كان ممكناً لصحافيٍ الآن أن يدخل حيّز الثقافة الشعبية كما فعل تومسون، ويصل بتساؤلاته حتى إلى الطبيعة الاقتصادية للصحافة، وكيف قوض لصحافيٍ مكلف بـ 200 كلمة عن سباق دراجات أن يحصل على هذا التمويل الهائل والإمكانيات ويعود من دون المادة المطلوبة، لكن حاملاً كتابه. وذلك تزامناً مع حالة اقتصادية سيئة يعيشها العاملون في المجال حالياً.
تعيد "ذا أتلانتيك" ذكرى تومسون (الذي كان له تاريخ طويل من التعاون مع المجلة)، وتستحضره كمتنبئ لظهور ترامب نفسه. ففي كتابه "ملائكة الجحيم"، يعايش تومسون إحدى الثقافات الفرعية، وهي عصابة دراجات نارية تحمل الاسم ذاته ويتطرق فيه إلى "سلوكيات الانتقام" التي توجد عند كل شخصٍ منا، ويسهم التخلف التقني والشعور بأن العالم تركنا في تعزيزها. عزا تومسون تلك الروح، التي لاحظ رسوخها عند أفراد العصابة، إلى انفصام نخب "بيركلي" عن الواقع والفقر والطبقات العاملة، واعتقادهم الساذج بان العصابة ستكون جزءًا من "ثقافة مضادة" لينتهي الأمر بدعم العصابة للرئيس حينها ليندون جونسون وتطوعها لمحاربة "الشيوعية". وترسم المجلة خطوط مقارنة بين تلك البلاهة حينها وهذه الذي تحدث اليوم وتنتج شعبويةً تستمد شرعيتها من ذات الأفراد. وخارج المجال الصحلفي، ترجم الاهتمام هذا عبر كشف شركة "إم جي إم" العام الماضي عن البدء بمسلسلها "الخوف والبغض" الذي يتناول حياة تومسون.