"مين معك؟ ليش جاية لوحدك؟ روحي جيبي (احضري) حدا يعملّك الأوراق". بعض من العبارات التي يواجَه بها مواطن لبناني من ذوي الإعاقة في الدوائر الحكومية، عندما يسأل موظفاً عن كيفية إنهاء معاملة ما والوقت اللازم لإتمامها. يبدو أنّ الشخص المعوّق إنسان يفتقد إلى الأهليّة التي تتيح له الاستقلاليّة، وهو في حاجة دائمة لوليّ أمر حتى ينجز معاملاته في دولتنا العتيدة.
قبل عشر سنوات، خضتُ "معمعة" إنجاز الوثائق الخاصة بسيارتي المعفاة من رسوم الجمارك بنفسي. حينها، تفاجأتُ بأنّهم منحوني الإعفاء من جهة، في حين صعّبوا الأمر من جهة أخرى عبر معاملات بيروقراطيّة تطلبت 48 توقيعاً مختلفاً من دوائر ومكاتب الجمارك الموزّعة ما بين مرفأ بيروت ومركز رياض الصلح (بيروت). وهذا أمر يجعل المعوّق راغباً في التخلي عن حقوقه المشروعة التي أقرّها قانون الأشخاص المعوّقين 220/ 2000.
في مايو/ أيار الماضي، رُشّحتُ لعضوية بلدية بيروت خلال الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة، من ضمن لائحة "بيروت مدينتي". قرّرتُ إنجاز الأوراق اللازمة بنفسي. في زياراتي الأولى لمبنى وزارة الداخلية اللبنانية، سألتُ عنصر الأمن عند المدخل المواجه لمبنى "مصرف لبنان" عن إمكانية دخولي إلى الوزارة بالكرسي المتحرّك. استغرب وقال: "كلا... ثمّة عتبات وأدراج كثيرة. أحضري أحداً لينجز أوراقك". هكذا، بكل بساطة، شعرتُ بأنّني قاصرة أحتاج إلى وليّ أمر. توجّهتُ إلى مدخل ثانٍ وسألتُ عنصر الأمن عن إمكانية الدخول من هذه الجهة وعن احتمال توفّر موقف لسيارتي. أتى جوابه: "هذا المدخل مخصص للوزير والضباط فقط. ما من مواقف مخصّصة لذوي الإعاقة. ارحلي من هنا!".
عدتُ في اليوم التالي إلى الوزارة وقد تخلّيتُ عن الكرسي المتحرك مستعينة بعكّازتي. ما شاهدته يومها أصابني بالإحباط. رجل كبير في السنّ يواجه صعوبة كبيرة في التنقل بين التعرجات الكثيرة والعتبات غير المتساوية، لتقديم معاملته عبر نافذة صغيرة. كانت يداه ترتجفان فيما هو يلهث. أمّا أنا، فاحتجتُ إلى من يسندني لأتخطى الأدراج المتكسرة والمنحدر المتعرّج أمام تلك النافذة. أُنجِزت أوراقي بعد أيام، فتوجّهتُ إلى مبنى بلدية بيروت لتقديمها إلى المحافظ. لم أجد موقفاً مخصصاً لذوي الإعاقة أمام مبنى البلدية، فضلاً عن إشارات "ممنوع الوقوف" الموزّعة في المكان. في النهاية، سُمِح لي بركن سيارتي في موقف مخصص لمحل بيع هواتف خلوية. دخلتُ مبنى البلدية بعدما تسلّقتُ الرصيف بمعاونة دركيّ. في المبنى مصعد.. الحمد لله! كان يعمل بخلاف المصاعد في المباني الحكوميّة. لكنّ الإرهاق خلال عملية الدفع في مبنى "الضريبة على القيمة المضافة"، جعلني أتخلى عن كبريائي، فكلّفتُ أحد أعضاء "بيروت مدينتي" إنجازها لي.
حلّ يوم الانتخابات، في الثامن من مايو/ أيار 2016. قلم الاقتراع حيث يرد اسمي، يقع في الطبقة الرابعة من مدرسة في منطقة زقاق البلاط. كان ذلك اقتراعي الثالث، بعد أوّل في انتخابات نيابية وثانٍ في انتخابات بلدية. المبنى قديم، لكنّه مجهّز بمصعد. أمر إيجابيّ، غير أنّه كان معطّلاً. أخذتُ نفساً عميقاً وبدأتُ رحلة تسلّق درج الطبقات الأربع. وصلتُ منهكة، تكاد أنفاسي أن تنقطع. اقترعتُ. وعندما هممتُ بالنزول وتوجّهتُ صوب الدرج، أخبرني دركيّ هناك بأنّ المصعد يعمل وفي إمكاني استخدامه.
أستطيع القول إنّ تجربتي هذه كانت مفرحة ومحزنة في آنٍ، فيما استنتجتُ أنّ السلطات المعنيّة التي أصدرت القانون 220/ 2000 الخاص بالأشخاص المعوّقين لم تطبّقه في دوائرها الحكومية، بالتالي لم تسهّل انخراط هؤلاء في ممارسة حقوقهم السياسية اقتراعاً وترشيحاً.
وفقاً لإحصاءات وزارة الشؤون الاجتماعية، لا أرقام دقيقة لعدد الأشخاص المعوّقين في لبنان، وهي تتراوح ما بين مائة ألف ومائتي ألف معوّق. من جهتها، تقدّر منظمة الصحة العالمية نسبة الأشخاص المعوّقين بنحو عشرة في المئة من تعداد السكان، مع الأخذ في عين الاعتبار أنّ القسم الأكبر منهم من ذوي الإعاقات الحركية، أي أنّهم الفئة الكبرى التي تحتاج إلى بنى تحتية مجهّزة. وذلك حتى تتمكّن هذه الفئة من تلقي العلم والعمل وتمارس حياتها اليومية تماماً كأفراد المجتمع الباقين.
تكمن مشكلة الأشخاص المعوّقين - بغضّ النظر عن عددهم - في عدم حصولهم على حقوقهم بالحدّ الأدنى، على الرغم من القوانين. فتلك ما زالت تنتظر التنفيذ، في المؤسسات الحكومية وتلك الخاصة أيضاً، لجهة تأمين مواقف سيارات لذوي الإعاقة، بالإضافة إلى بند توظيف ثلاثة في المائة منهم في المؤسسات العامة والخاصة، وغيرها من البنود التي وردت في القانون.
كذلك، تتحمّل المجالس البلدية جزءاً من المسؤولية، لجهة تطبيق المعايير الهندسية المعتمدة عالمياً، والتي تهدف إلى تأمين تنقّل الأشخاص المعوّقين وكبار السنّ بسهولة في الأماكن العامة والمؤسسات. بالتالي، وبصفتي معنيّة، أرى ضرورة إجراء تعديلات جذرية على مستويات مختلفة.
اقــرأ أيضاً
قبل عشر سنوات، خضتُ "معمعة" إنجاز الوثائق الخاصة بسيارتي المعفاة من رسوم الجمارك بنفسي. حينها، تفاجأتُ بأنّهم منحوني الإعفاء من جهة، في حين صعّبوا الأمر من جهة أخرى عبر معاملات بيروقراطيّة تطلبت 48 توقيعاً مختلفاً من دوائر ومكاتب الجمارك الموزّعة ما بين مرفأ بيروت ومركز رياض الصلح (بيروت). وهذا أمر يجعل المعوّق راغباً في التخلي عن حقوقه المشروعة التي أقرّها قانون الأشخاص المعوّقين 220/ 2000.
في مايو/ أيار الماضي، رُشّحتُ لعضوية بلدية بيروت خلال الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة، من ضمن لائحة "بيروت مدينتي". قرّرتُ إنجاز الأوراق اللازمة بنفسي. في زياراتي الأولى لمبنى وزارة الداخلية اللبنانية، سألتُ عنصر الأمن عند المدخل المواجه لمبنى "مصرف لبنان" عن إمكانية دخولي إلى الوزارة بالكرسي المتحرّك. استغرب وقال: "كلا... ثمّة عتبات وأدراج كثيرة. أحضري أحداً لينجز أوراقك". هكذا، بكل بساطة، شعرتُ بأنّني قاصرة أحتاج إلى وليّ أمر. توجّهتُ إلى مدخل ثانٍ وسألتُ عنصر الأمن عن إمكانية الدخول من هذه الجهة وعن احتمال توفّر موقف لسيارتي. أتى جوابه: "هذا المدخل مخصص للوزير والضباط فقط. ما من مواقف مخصّصة لذوي الإعاقة. ارحلي من هنا!".
عدتُ في اليوم التالي إلى الوزارة وقد تخلّيتُ عن الكرسي المتحرك مستعينة بعكّازتي. ما شاهدته يومها أصابني بالإحباط. رجل كبير في السنّ يواجه صعوبة كبيرة في التنقل بين التعرجات الكثيرة والعتبات غير المتساوية، لتقديم معاملته عبر نافذة صغيرة. كانت يداه ترتجفان فيما هو يلهث. أمّا أنا، فاحتجتُ إلى من يسندني لأتخطى الأدراج المتكسرة والمنحدر المتعرّج أمام تلك النافذة. أُنجِزت أوراقي بعد أيام، فتوجّهتُ إلى مبنى بلدية بيروت لتقديمها إلى المحافظ. لم أجد موقفاً مخصصاً لذوي الإعاقة أمام مبنى البلدية، فضلاً عن إشارات "ممنوع الوقوف" الموزّعة في المكان. في النهاية، سُمِح لي بركن سيارتي في موقف مخصص لمحل بيع هواتف خلوية. دخلتُ مبنى البلدية بعدما تسلّقتُ الرصيف بمعاونة دركيّ. في المبنى مصعد.. الحمد لله! كان يعمل بخلاف المصاعد في المباني الحكوميّة. لكنّ الإرهاق خلال عملية الدفع في مبنى "الضريبة على القيمة المضافة"، جعلني أتخلى عن كبريائي، فكلّفتُ أحد أعضاء "بيروت مدينتي" إنجازها لي.
حلّ يوم الانتخابات، في الثامن من مايو/ أيار 2016. قلم الاقتراع حيث يرد اسمي، يقع في الطبقة الرابعة من مدرسة في منطقة زقاق البلاط. كان ذلك اقتراعي الثالث، بعد أوّل في انتخابات نيابية وثانٍ في انتخابات بلدية. المبنى قديم، لكنّه مجهّز بمصعد. أمر إيجابيّ، غير أنّه كان معطّلاً. أخذتُ نفساً عميقاً وبدأتُ رحلة تسلّق درج الطبقات الأربع. وصلتُ منهكة، تكاد أنفاسي أن تنقطع. اقترعتُ. وعندما هممتُ بالنزول وتوجّهتُ صوب الدرج، أخبرني دركيّ هناك بأنّ المصعد يعمل وفي إمكاني استخدامه.
أستطيع القول إنّ تجربتي هذه كانت مفرحة ومحزنة في آنٍ، فيما استنتجتُ أنّ السلطات المعنيّة التي أصدرت القانون 220/ 2000 الخاص بالأشخاص المعوّقين لم تطبّقه في دوائرها الحكومية، بالتالي لم تسهّل انخراط هؤلاء في ممارسة حقوقهم السياسية اقتراعاً وترشيحاً.
وفقاً لإحصاءات وزارة الشؤون الاجتماعية، لا أرقام دقيقة لعدد الأشخاص المعوّقين في لبنان، وهي تتراوح ما بين مائة ألف ومائتي ألف معوّق. من جهتها، تقدّر منظمة الصحة العالمية نسبة الأشخاص المعوّقين بنحو عشرة في المئة من تعداد السكان، مع الأخذ في عين الاعتبار أنّ القسم الأكبر منهم من ذوي الإعاقات الحركية، أي أنّهم الفئة الكبرى التي تحتاج إلى بنى تحتية مجهّزة. وذلك حتى تتمكّن هذه الفئة من تلقي العلم والعمل وتمارس حياتها اليومية تماماً كأفراد المجتمع الباقين.
تكمن مشكلة الأشخاص المعوّقين - بغضّ النظر عن عددهم - في عدم حصولهم على حقوقهم بالحدّ الأدنى، على الرغم من القوانين. فتلك ما زالت تنتظر التنفيذ، في المؤسسات الحكومية وتلك الخاصة أيضاً، لجهة تأمين مواقف سيارات لذوي الإعاقة، بالإضافة إلى بند توظيف ثلاثة في المائة منهم في المؤسسات العامة والخاصة، وغيرها من البنود التي وردت في القانون.
كذلك، تتحمّل المجالس البلدية جزءاً من المسؤولية، لجهة تطبيق المعايير الهندسية المعتمدة عالمياً، والتي تهدف إلى تأمين تنقّل الأشخاص المعوّقين وكبار السنّ بسهولة في الأماكن العامة والمؤسسات. بالتالي، وبصفتي معنيّة، أرى ضرورة إجراء تعديلات جذرية على مستويات مختلفة.