23 يناير 2020
"السترات الصفراء" إلى أين؟
لم تنشغل فرنسا وحدها بظاهرة السترات الصفراء، بل أوروبا والعالم أيضا إلى حد كبير. الأمر الذي لم تعكسه شاشات التلفاز والقنوات الفضائية وتقارير الصحف الشهيرة وحدها، بل وتعليقات وزراء الدول والرؤساء، وأولهم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في واحدة من تغريداته المنفلتة. وذلك لا يعود فقط إلى ميزات هذه الظاهرة التي فاجأت الجميع، بمن فيهم السلطة الفرنسية والأحزاب والمعلقون والمحللون بمختلف مناهجهم واتجاهاتهم، بل يعود أيضا إلى صدورها عن حيوية ثورية فرنسية، طالما كانت دافعة وملهمة للبشرية خلال أربعة قرون ماضية.
أما تميز ظاهرة السترات الصفراء فهو في انتشارها الأفقي في عموم فرنسا، بتجمعاتها وحواجزها المنتشرة على الطرقات الوطنية، وتعطيلها حركة النقل العام والتجارة الداخلية، ثم تركيز مظاهراتها، وما داخلها من عنفٍ وصداماتٍ مقوننة مع قوات الأمن في أيام السبت، وفي معظم المدن، إضافة إلى العاصمة باريس، حيث عرضت حشودها ومطالبها طوال اليوم، وفي مختلف ظروف الطقس الشتائي البارد والماطر، وخصوصا في شارع الشانزليزيه الذي ليس أكبر شوارع باريس التجارية والسياحية فحسب، بل هو مدخل لمحاصرة قصر الإليزيه المجاور، حيث تكثفت رمزية الاحتجاج على الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وبرنامجه النيوليبرالي، والذي تناولته أوصاف الكذّاب، رئيس الأغنياء، والمتعجرف، والذي يحتقر الفرنسيين.. إلخ. فضلا عن ذلك، تميزت أفقية هذه الظاهرة بأنها بلا رأس، ولا هيكلية، فكأنها الشعب بنفسه الحاضر مباشرة.
عجزت الحكومة الفرنسية عن توفير مندوبين عنها للحوار والتفاوض، على الرغم من
محاولاتها المتكرّرة دعوة بعض الأشخاص في إطارها. وإذا كان بعض محللي علم الاجتماع السياسي التقليدي يعتبرون ذلك فجوة عفوية، ستتسبب في مقتل الظاهرة أو إضعافها مستقبلا، فإن آخرين يجدون فيه تعبيرا عن تجديد الديمقراطية والطلب المتزايد على تشاركية أحدث، تتوجه إلى توسيع الاعتماد على المبادرة المواطنية، لتحل وسيطا آخر بين الحكومات والشعب، ولا تقتصرعلى البرلمانات التي كثيرا ما انتهت مناقشاتها وتصويتاتها إلى مخالفة إرادة الشعوب، كما حدث حين عارض الفرنسيون والدنماركيون معاهدة ماستريخت عام 1991، والتي وقعتها المجموعة الأوروبية المشكلة في أواخر الخمسينات، لكن البرلمانات عادت ومرّرتها، بعد تأخير القضاء الألماني لها أيضا، فتم تأسيس الاتحاد الأوروبي عام 1993. ومع ذلك، بقي موقع بريطانيا خاصا داخل هذا الاتحاد بتأثير استفتاءاتها إلى أن صوّتت أكثرية البريطانيين على الخروج منه في استفتاء عام 2016، الأمر الذي ما زال مثيرا للمشكلة الراهنة باسم "بريكست"!.
وهكذا، فعبر وسيلة الاستفتاء التي تكرر اللجوء إليها في بعض بلدان الديمقراطيات الأوروبية الشمالية، وجدت التشاركية المباشرة نجاحها في التعبير عن إرادة المواطنين، بينما لجأ فرنسيو السترات الصفراء إلى ما يوازيها، في العرائض والبيانات والدعوات، واستثمار آخر تقنيات التواصل الاجتماعي، تعويضا عن بطء البرلمانات ومماطلتها، وتخلف النقابات والأحزاب وتعثرها.
من جهةٍ أخرى، إذا كانت هذه الظاهرة قد انطلقت ردا مباشرا على فرض ضريبة على أسعار الوقود، أي من منطلق اقتصادي معيشي بحت، فقد كانت أيضا محصلة تراكم طويل من تردّي القدرة الشرائية، وما لحق بها من تدنّي الوضع المعيشي لفقراء الفرنسيين، وأبناء الطبقة الوسطى من ساكني الأرياف الذين اضطروا للاعتماد على وسائل نقلهم الخاصة، بعد تراجع خدمات المواصلات العامة وغيابها خارج المدن ومحيطها، في إطار بيع الدولة خدمات القطاع العام وتخصيصه وإخضاعه لشروط الاتحاد الأوروبي، ومتطلبات الدخول في اقتصاد السوق والعولمة المتنامية، لكن تفاقم المطالب الاجتماعية، عند النقابات والطلبة، سرعان ما أدى إلى مواكبة حراك السترات الصفراء، بدءا من العدالة الضريبية، وما تعنيه من تخفيض رواتب النواب والمسؤولين الكبار، وإعادة الضرائب التصاعدية على الثروة، وتخفيضها على المهمّشين والضعاف الذين طالما احتموا ببقايا القطاع العام في الدولة الفرنسية المتمثلة في الضمان الصحي والاجتماعي، ومنهم المتقاعدون وعمال الساعات الإضافية الساعون إلى تحسين دخولهم، بالإضافة إلى رفض الطلاب الإصلاح النخبوي للتعليم، فضلا عن طفو شعارات تراوحت بين أقصى اليسار وأقصى اليمين والشعبوية أيضا. وكل ما بلوره ذلك من تعبيرٍ عن احتجاج فرنسا العميقة أو فرنسا الأطراف، ردا على تهميشها تجاه فرنسا المركز (مدناً وعاصمة وأرباب عمل) أو فرنسا الرأس (حكومة وأحزاباً وسياسيين)، الأمر الذي ظهر بوضوح في تركز التخريب الذي صاحب بعض المظاهرات على المتاجر الكبرى والأحياء الراقية وسياراتها.
وحين لم تلق الاحتجاجات الأولى للسترات الصفراء استيعابا مناسبا من السلطة ورئيسها، بل قوبلت بتعالٍ وإصرار على القرارات، مع إجراءات أمنية تقليدية وصارمة، لكن على الرغم من أنها لم تتجاوز حدود الهامش القانوني المرتبط بالديمقراطية الفرنسية المستقرّة تاريخيا، فقد أدت إلى تصاعد المطالب المعيشية وشمولها جوانب سياسية، تردّد في إطارها حوالي أربعين مطلبا، وصلت إلى المطالبة بحل البرلمان ورحيل الحكومة واستقالة الرئيس، ما حدا بمعلقين إلى مقارنتها بثورات الربيع العربي ومطالبها. وعكس بذلك مزيدا من فقدان الثقة بين قطاعات واسعة والطبقة السياسية، كان من أبرز دلائله العجز المستمر عن التفاوض بين الطرفين. وعلى الرغم من التنازلات التي قدمتها السلطة، وتراجعاتها المتأخرة والمتمثلة في الاستجابة
لبعض المطالب، كما ظهر في الخطاب الثاني للرئيس ماكرون. واليوم، بعد السبت الخامس، وإثر جملة من التغيرات التي صاحبت حراك السترات الصفراء، كان من بينها انعكاسات قلق الشارع الفرنسي من جريمة ستراسبورغ (قتيل وجرحى في هجوم مسلح)، وإثارتها، ولو بشكل محدود، فوبيا الإرهاب، فضلا عن القلق من آثار العنف والتخريب الذي ركب على التظاهرات، وحرف وجهتها حينا، ثم دعوة بعض المعتدلين إلى قبول الحوار إثر تراجع السلطة، وبروز دلائل على إمكانية مراجعتها بعض جوانب برنامجها الليبرالي السيئ الصيت، الأمر الذي دل عليه تغيّر خطاب ماكرون اللاحق والذكي، إلى درجة إعلانه عن الاستعداد لتحمل عجز الميزانية الناتج من قراراته، بما يخالف قواعد الاتحاد الأوروبي، وذلك من أجل مصلحة المواطن الفرنسي.
ربما يفتح ذلك كله الباب أمام أفق جديد، لا في مستقبل فرنسا فقط، بل في مستقبل الاتحاد الأوروبي أيضا، إذ يدعو إلى مراجعة قوانين سوقه وشروط ميزانياته أولا، بما يراعي مصالح المواطنين جميعا، لا الاقتصار على مصالح كبار المستثمرين وأرباب العمل! وهذا ما يرتبط أيضا بمستقبل تطور حراك أصحاب السترات الصفراء الفوسفورية، ونضجها المحتمل، والتي نبهت رمزية لونها إلى الأخطار التي تواجه مجتمعات الديمقراطية، ثم بدأت تنتشر في العديد من بلدان أوروبا والعالم، وبأشكال مصحوبة بالتعبيرات السلمية والفنية. الأمر الذي يثير مفارقة مؤلمة، عند مقارنته بما حدث في بدايات حراك ثورات الربيع العربي التي بدأت سلميةً، وصاحبتها مشاهد الغناء والهتافات الإيقاعية، وحتى الرقص الجماعي وحمل الورود، خصوصا في سورية، لكنها ووجهت مباشرة بالعنف المدمر، ما أحدث خرابا واحتلالا ومؤامرات دولية. ودفع إعلامية عربية لتنبيه المحتجين العرب إلى أن تكون ستراتهم واقيةً من الرصاص قبل كل لون. وهذا هو مربط الفرس بين الغرب الذي استقرت فيه الديمقراطية، على الرغم من تعرّجاتها، والشرق العربي الذي استقر فيه الاستبداد، على الرغم من كل فضائحه التقليدية وحتى "القنصلية" أخيرا!
أما تميز ظاهرة السترات الصفراء فهو في انتشارها الأفقي في عموم فرنسا، بتجمعاتها وحواجزها المنتشرة على الطرقات الوطنية، وتعطيلها حركة النقل العام والتجارة الداخلية، ثم تركيز مظاهراتها، وما داخلها من عنفٍ وصداماتٍ مقوننة مع قوات الأمن في أيام السبت، وفي معظم المدن، إضافة إلى العاصمة باريس، حيث عرضت حشودها ومطالبها طوال اليوم، وفي مختلف ظروف الطقس الشتائي البارد والماطر، وخصوصا في شارع الشانزليزيه الذي ليس أكبر شوارع باريس التجارية والسياحية فحسب، بل هو مدخل لمحاصرة قصر الإليزيه المجاور، حيث تكثفت رمزية الاحتجاج على الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وبرنامجه النيوليبرالي، والذي تناولته أوصاف الكذّاب، رئيس الأغنياء، والمتعجرف، والذي يحتقر الفرنسيين.. إلخ. فضلا عن ذلك، تميزت أفقية هذه الظاهرة بأنها بلا رأس، ولا هيكلية، فكأنها الشعب بنفسه الحاضر مباشرة.
عجزت الحكومة الفرنسية عن توفير مندوبين عنها للحوار والتفاوض، على الرغم من
وهكذا، فعبر وسيلة الاستفتاء التي تكرر اللجوء إليها في بعض بلدان الديمقراطيات الأوروبية الشمالية، وجدت التشاركية المباشرة نجاحها في التعبير عن إرادة المواطنين، بينما لجأ فرنسيو السترات الصفراء إلى ما يوازيها، في العرائض والبيانات والدعوات، واستثمار آخر تقنيات التواصل الاجتماعي، تعويضا عن بطء البرلمانات ومماطلتها، وتخلف النقابات والأحزاب وتعثرها.
من جهةٍ أخرى، إذا كانت هذه الظاهرة قد انطلقت ردا مباشرا على فرض ضريبة على أسعار الوقود، أي من منطلق اقتصادي معيشي بحت، فقد كانت أيضا محصلة تراكم طويل من تردّي القدرة الشرائية، وما لحق بها من تدنّي الوضع المعيشي لفقراء الفرنسيين، وأبناء الطبقة الوسطى من ساكني الأرياف الذين اضطروا للاعتماد على وسائل نقلهم الخاصة، بعد تراجع خدمات المواصلات العامة وغيابها خارج المدن ومحيطها، في إطار بيع الدولة خدمات القطاع العام وتخصيصه وإخضاعه لشروط الاتحاد الأوروبي، ومتطلبات الدخول في اقتصاد السوق والعولمة المتنامية، لكن تفاقم المطالب الاجتماعية، عند النقابات والطلبة، سرعان ما أدى إلى مواكبة حراك السترات الصفراء، بدءا من العدالة الضريبية، وما تعنيه من تخفيض رواتب النواب والمسؤولين الكبار، وإعادة الضرائب التصاعدية على الثروة، وتخفيضها على المهمّشين والضعاف الذين طالما احتموا ببقايا القطاع العام في الدولة الفرنسية المتمثلة في الضمان الصحي والاجتماعي، ومنهم المتقاعدون وعمال الساعات الإضافية الساعون إلى تحسين دخولهم، بالإضافة إلى رفض الطلاب الإصلاح النخبوي للتعليم، فضلا عن طفو شعارات تراوحت بين أقصى اليسار وأقصى اليمين والشعبوية أيضا. وكل ما بلوره ذلك من تعبيرٍ عن احتجاج فرنسا العميقة أو فرنسا الأطراف، ردا على تهميشها تجاه فرنسا المركز (مدناً وعاصمة وأرباب عمل) أو فرنسا الرأس (حكومة وأحزاباً وسياسيين)، الأمر الذي ظهر بوضوح في تركز التخريب الذي صاحب بعض المظاهرات على المتاجر الكبرى والأحياء الراقية وسياراتها.
وحين لم تلق الاحتجاجات الأولى للسترات الصفراء استيعابا مناسبا من السلطة ورئيسها، بل قوبلت بتعالٍ وإصرار على القرارات، مع إجراءات أمنية تقليدية وصارمة، لكن على الرغم من أنها لم تتجاوز حدود الهامش القانوني المرتبط بالديمقراطية الفرنسية المستقرّة تاريخيا، فقد أدت إلى تصاعد المطالب المعيشية وشمولها جوانب سياسية، تردّد في إطارها حوالي أربعين مطلبا، وصلت إلى المطالبة بحل البرلمان ورحيل الحكومة واستقالة الرئيس، ما حدا بمعلقين إلى مقارنتها بثورات الربيع العربي ومطالبها. وعكس بذلك مزيدا من فقدان الثقة بين قطاعات واسعة والطبقة السياسية، كان من أبرز دلائله العجز المستمر عن التفاوض بين الطرفين. وعلى الرغم من التنازلات التي قدمتها السلطة، وتراجعاتها المتأخرة والمتمثلة في الاستجابة
ربما يفتح ذلك كله الباب أمام أفق جديد، لا في مستقبل فرنسا فقط، بل في مستقبل الاتحاد الأوروبي أيضا، إذ يدعو إلى مراجعة قوانين سوقه وشروط ميزانياته أولا، بما يراعي مصالح المواطنين جميعا، لا الاقتصار على مصالح كبار المستثمرين وأرباب العمل! وهذا ما يرتبط أيضا بمستقبل تطور حراك أصحاب السترات الصفراء الفوسفورية، ونضجها المحتمل، والتي نبهت رمزية لونها إلى الأخطار التي تواجه مجتمعات الديمقراطية، ثم بدأت تنتشر في العديد من بلدان أوروبا والعالم، وبأشكال مصحوبة بالتعبيرات السلمية والفنية. الأمر الذي يثير مفارقة مؤلمة، عند مقارنته بما حدث في بدايات حراك ثورات الربيع العربي التي بدأت سلميةً، وصاحبتها مشاهد الغناء والهتافات الإيقاعية، وحتى الرقص الجماعي وحمل الورود، خصوصا في سورية، لكنها ووجهت مباشرة بالعنف المدمر، ما أحدث خرابا واحتلالا ومؤامرات دولية. ودفع إعلامية عربية لتنبيه المحتجين العرب إلى أن تكون ستراتهم واقيةً من الرصاص قبل كل لون. وهذا هو مربط الفرس بين الغرب الذي استقرت فيه الديمقراطية، على الرغم من تعرّجاتها، والشرق العربي الذي استقر فيه الاستبداد، على الرغم من كل فضائحه التقليدية وحتى "القنصلية" أخيرا!