يُشارك معتصم آخر في الحديث، فيقول "أهلاً بالموت إذا كان أثناء القتال مع النصارى، صرنا نموت في قتال بين مسلم ومسلم، فكيف به ونحن نواجه الأميركيين". ويفاضل بين الأميركيين (جنود الولايات المتحدة) والأميركيين "الإصلاحيين" (في إشارة إلى المنتمين لحزب الإصلاح الذي تقول الجماعة إنها تحاربه وتصفه بأنه "داعشي وعميل للغرب").
هنا يتدخل متحدث ثالث ليؤكد أن "عبدربه منصور (الرئيس اليمني) باع الجنوب لعلي عبدالله صالح (الرئيس السابق) عام 1994، والآن يبيع الشمال لأميركا".
تتلمّس من خلال أحاديث بعض أفراد المخيّم مدى استحكام التعبئة في صدورهم، ومدى تصورهم للموقف التصعيدي الأخير الذي باتوا جزءاً لا يتجزأ منه. يشرحون رؤاهم ومعلوماتهم عن الأحداث، بيقين شديد، وكأن ما يسمعونه من إعلام الحوثيين، حقائق لا تقبل التشكيك.
الطريق إلى الخصَمة
ما إن يتجاوز الراكب المنطلق من صنعاء، سفح جبل عيبان صعوداً باتجاه الغرب، حتى يبدأ الطريق بالانحدار في هضبة الصباحة، حيث تستقبلك نقطة عسكرية على مفرق يجمع طريقين من صنعاء. وبعد مسافة نحو عشر دقائق بالسيارة، تواجهك نقطة تفتيش تابعة لـ"أنصار الله" يتناوب عليها شخصان إلى ثلاثة، ولا تعترض نقطة الحوثيين طريق المسافرين ولا تفتشهم. ليبدأ بعدها مخيم الحوثيين، وهو عبارة عن مجموعة من الخيام على يمين الطريق يحيط بها شبك معدني بمثابة سور. وعند مدخل المخيم يقف مسلحان لتفتيش الداخلين إلى المخيم، وتتوسط المخيم ساحة صغيرة بمنصة صغيرة تلقى منها الكلمات والتعليمات والشعارات والقصائد عبر مكبرات صوت أحدها موجه للطريق العام.
تغرس الكلمات الحماسية والشعارات التي تبثها مكبرات الصوت في المخيّم حالة من التحفز لدى الموجودين فيه، يصعب تفكيكها بعد إبرام التسويات السياسية.
وأمام مدخل المخيم تنتصب نقطة تفتيش حوثية ثانية لا تفتش أحداً، لكنها على درجة عالية من اليقظة. وبعد مخيم الحوثيين بمسافة، وتحديداً قرب قرية المساجد، تنتصب نقطة تفتيش ثانية للدولة.
توجد في مخيم الحوثيين، أكثر من سيارة مخصصة للإسعاف، وسيارات أخرى يقول أحد المعتصمين إن جماعة "الحوثيين" غنمتها أثناء المواجهات مع القوات السعودية في الحرب السادسة عام 2010. وفي جوار المخيم وعلى محيطه ثمة خيام صغيرة أصغر حجماً إحداها تحمل شعار الأمم المتحدة، ولم يتسنّ التأكد هل هي للمعتصمين أم لفريق أممي.
المخيم والمعسكر
تنتابك الرهبة عند الاقتراب من المخيم بسبب الشعارات الحماسية والمسلحين الذين لا تفارقهم بنادقهم، وحين تستعرض عدد الخيام وحجمها الكبير، يتبادر لذهنك أن هذه الخيام لو كانت مملوءة بالمعتصمين، لكان الأمر أشبه بمعسكر صغير وليس مخيم اعتصام.
وتتمثل أهمية المدخل الغربي للعاصمة، في كونه يتحكم في طريق صنعاء مع محافظة الحديدة الساحلية، الميناء الأهم للعاصمة، والسيطرة عليه تعني التموضع في مكان مرتفع يمكن منه استهداف معظم الأحياء في العاصمة.
كما يقع في منطقة الصباحة معسكر قوات العمليات الخاصة، وهي قوات أنشئت قبل نحو عشر سنوات وكانت تتبع الحرس الجمهوري اليمني الذي كان يقوده أحمد علي عبد الله صالح، نجل الرئيس السابق، وتتكون من عدة ألوية وتصنّف من قوات النخبة.
ومنذ تصعيد الحوثيين حول صنعاء، ظل اعتصام الصباحة من أكثر النقاط إثارة للجدل بسبب حساسية الموقع العسكري الاستراتيجي الذي يمثّل تخييم الحوثيين فيه وكذلك في شمال العاصمة وجنوبها، مشهداً أقرب إلى الاستعدادات الحربية، منه إلى التظاهرة الاحتجاجية.
ولدى سؤال جندي عند نقطة تفتيش قريبة من المخيم وتابعة لقوات الأمن الخاصة، "كيف تتعامل قوات الأمن مع أطقم (سيارات) الحوثيين المسلحة حين تمر من المنطقة؟"، يجيب "نحن (كأفراد شرطة) لدينا طقم واحد وليس بإمكاننا المواجهة، ولكن إذا قررت المواقع العسكرية المحيطة بالمكان المهاجمة، فإن الحوثيين لن يصمدوا أمام الجيش".
يؤكد أحد المعتصمين أن "المواقع العسكرية المحيطة كلها سلمت للحوثيين، وأن بقاء الجنود فيها رمزي، حتى في مواقع داخل صنعاء".
غير أن رفيقنا الجندي في طريق العودة، يستهجن ما ردده المعتصم الحوثي، ويفصّل أن "الحوثيين اعتدوا على طقم تابع للجيش ثم قاموا بتحكيم قائد المعسكر باثنين من الثيران"، والتحكيم بذبح الثيران هو نوع من الاعتذار وفق العرف القبلي في بعض مناطق اليمن.
أربعة مكوّنات
يمكن تقسيم المعتصمين في المخيم إلى أربعة أصناف. الأول، هم المشرفون والمنظّمون، وهؤلاء من الكوادر الفاعلة في جماعة "أنصار الله"، وهم على درجة عالية من الفصاحة والجدية. ويبدو أنهم تلقوا تدريباً لإدارة مثل هكذا تجمعات، واكتسبوا خبرة سابقة طوال مسيرة الجماعة أثناء تمددها السياسي والعسكري من صعدة إلى عمران وصولاً إلى تخوم صنعاء.
الصنف الثاني، هم مشايخ وأفراد قبليون انضموا إلى الحوثيين، بعضهم عن ولاء واقتناع، والبعض الآخر بدافع مصلحة موعودة أو موجودة. ويفيد أحد الجنود المرابطين قرب المخيم أن جزءاً لا بأس به من أفراد هذا الصنف هم من قبيلة "بكيل" الشقيق التاريخي لقبيلة "حاشد" وكلا القبيلتين تمثلان غالبية النسيج القبلي في مناطق شمال الشمال.
أما الصنف الثالث، فهم من أنصار "المؤتمر الشعبي العام" الذي يترأسه صالح، وانضموا لمخيم الحوثيين نكاية بحزب "الإصلاح"، خصم الحوثيين الذي يعتبره "المؤتمريون" السبب الأكبر لثورة عام 2011 التي أقصت صالح، عن السلطة.
أما الصنف الرابع، فهم من أبناء مناطق شمال الشمال المكسورين بالفقر، والذين لم يستفيدوا خلال فترة حكم الرئيس السابق، كما لم تنعكس الطفرة المادية التي تمتع بها وجهاء مناطقهم، على أحوالهم الشخصية. هؤلاء لم يجدوا فرصتهم خلال الحكومات المتعاقبة سواء من الناحية المعيشية أو التعليمية، وهم يشكلون الصورة البائسة داخل مشهد الاعتصام، ويبدو أنهم أيضاً الصنف الأكثر تصديقاً وإيماناً وترويجاً لمفردات التعبئة الحوثية.