"عليكم التزود بزجاجة حارقة، وولاعة، وقفازات وعتلة، ومطرقة، بعد أن تصلوا إلى القرية، عليكم البحث عن بيت، ثم تكسروا بابا زجاجيا أو نافذة، ونسكب البنزين في الداخل أو ببساطة نشعل الزجاجة الحارقة ونقذفها ونشعل النار بالباب لمنعهم من الهرب".. هذه ليست اعترافات منفذي الهجوم الإرهابي الذي أدى لإحراق أسرة الدوابشة الفلسطينية، ومقتل طفلها الرضيع علي، بل هي تعليمات وردت في وثيقة عثر عليها في منزل يهودي متطرف أثناء اعتقاله قبل أسبوع في حي بني براك في تل أبيب.
تكشف الوثيقة التي نشرتها القناة العاشرة من التلفزيون الإسرائيلي، كيف تم إحراق عائلة الدوابشة، في سيناريو مشابه لـ 15 هجوما آخر، نفذه مهاجمون بنفس طريقة المعتدين على أسرة الدوابشة، وفقا لما وثقه "العربي الجديد" في تحقيقه من قلب قرية دومة في محافظة نابلس.
كيف تم إحراق الرضيع
يكشف مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة الغربية، بالسلطة الوطنية الفلسطينية غسان دغلس، أن تحليل المعطيات والشهادات التي تم جمعها بعد الهجوم على أسرة الدوابشة، يؤكد أن منفذي الهجوم الإرهابي تسلسلوا لقرية دومة قرب نابلس بهدف قتل أسرتين وليس أسرة واحدة، لا سيما أن الهجوم استهدف منزلين بالتزامن، ولكن الأسرة الأخرى لم تكن متواجدة في منزلها لحظة الهجوم.
يتفق رئيس مجلس قرية دومة عبد السلام أبو علان، مع غسان دغلس، إذ هرع أبو علان إلى مكان الهجوم بمجرد حدوثه، ووثق ما حدث.
يؤكد أبو علان لـ"العربي الجديد" أن "المنفذين قدموا للقرية من ناحية الشارع الرئيسي المحاذي للمنزلين المستهدفين"، وتابع قائلا "المستوطنون كانوا يأتون في المرات السابقة لتنفيذ الهجمات من ذلك الشارع، حيث تنزلهم السيارات التي تقلهم ثم تعود من البؤر الاستيطانية القريبة لحملهم.
يقول أبو علان "المهاجمون تجاوزوا منزلا مهجورا، لم يستهدفوه، ثم مروا على آخر محاط بسور ولم يهاجموه. لم يختاروا هدفا سهلا، ولكنهم اختاروا مهاجمة هدف يؤدي إلى إيقاع خسائر بشرية. ما دعاهم إلى مهاجمة بيت مكون من طابق واحد، كان بإمكانهم مشاهدة غرفة النوم، من الشارع (بيت أسرة الرضيع علي الدوابشة). ثم حطموا النوافذ وقذفوا بداخل المنزل زجاجة حارقة تحتوى مواد أكثر اشتعالا من البنزين، وخلال دقيقتين كان البيت بأكمله مشتعلا".
ويؤكد أبو علان أن "المنفذين هربوا باتجاه الشارع الرئيسي، وانسحبوا ركضا لمكان محدد، ركبوا بسيارة كانت تنتظرهم في مكان ما على الشارع". حديث أبو علان يؤكده ما قاله شاهد عيان من الجيران لـ "العربي الجديد".
يقول شاهد العيان، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إنه شاهد مقنعين يفران بعد الهجوم بدقائق من المكان صوب الشارع الرئيسي، وتتطابق هذه الشهادة مع ما كشفه المعلق العسكري للقناة الثانية من التلفزيون الإسرائيلي، روني دانيال، الذي أشار إلى أن التحقيقات أظهرت أن شخصين نفذا الهجوم، وأنهما هربا نحو بؤرة "ايش كوديش" الاستيطانية غير المرخصة من جيش الاحتلال القريبة من القرية.
اقرأ أيضاً: "العربي الجديد" تخترق عصابة صهيونية تستهدف الفلسطينيين
أسرة الرضيع علي الدوابشة تجلس إلى جانب جثته (getty) |
كاميرات المراقبة وايش كوديش
رصد "العربي الجديد" الشارع الرئيسي الذي استخدمه المهاجمون للهرب بعد الهجوم، يخضع الشارع للتصوير على مدار الساعة، وبحسب رئيس مجلس دومة فإن "الشارع مثبت عليه كاميرات من الجهة الجنوبية التي تؤدي لقرية المغير، ومن الناحية الشمالية التي تؤدي لقرية مجدل بني فاضل".
"يمكن مشاهدة كاميرات المراقبة، وهي مثبة على أعمدة الكهرباء وبالطبع فإن الجيش والشرطة الإسرائيلية، هما من ثبتاها"، كما يقول رئيس مجلس محلي قرية الرضيع علي الدوابشة.
تقطن بؤرة ايش كوديش الاستيطانية، (رجحت التحقيقات الإسرائيلية فرار المهاجمين إليها طبقاً لما كشفته القناة الثانية من التلفزيون الإسرائيلي على لسان معلقها العسكري روني دانيال)، 31 أسرة متشددة دينيا، يعتنقون فكرة أرض إسرائيل الكاملة وضرورة تهجير الفلسطينيين، معظمهم في سن الشباب (في العشرينيات والثلاثينيات)، أدوا الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال، سبق التحقيق مع عدد كبير منهم بتهمة المشاركة في هجمات تنظيم جباية الثمن اليهودي المتطرف، وهو ما يطابق معطيات خاصة حصل عليها "العربي الجديد" من أكثر من مصدر إسرائيلي.
ترجح المصادر الإسرائيلية هروب المهاجمين، عبر سيارة انتظرتهم، إذ تبعد أقرب بؤرة استيطانية (ايش كوديش تعني النهر المقدس) قرابة ساعة عن قرية دومة، ما يمنع سيناريو العودة مشيا على الأقدام. رصد "العربي الجديد" عدم إمكانية الدخول إلى مستوطنة "ايش كوديش" إلا عبر بوابة وحيدة يحرسها جنود الاحتلال، ومن المتعذر الدخول من أي مكان آخر إلى المستوطنة، إذ يفتح الجنود المكلفون بحراستها، النار على أي شخص يقترب ليلا من حدود المستوطنة.
يقلص العدد المحدود لسكان المستوطنة دائرة الاشتباه، إذ إن عدد الرجال (من بين الـ 31 أسرة) القادرين على تنفيذ الهجوم محدود جداً، ويمكن بسهولة عبر المدخل الوحيد للمستوطنة التأكد من الأشخاص الذين عادوا إليها بعد تنفيذ الهجوم الذي وقع في ساعات الفجر، فيما تسهل الكاميرات المثبتة على الشارع الرئيسي المحاذي لقرية دومة مهمة تسجيل الحركة في المنطقة على مدار الساعة، وهو ما يثبت تقاعس الحكومة الإسرائيلية على ضبط المهاجمين.
اقرأ أيضاً: "العربي الجديد" يكشف..آلة ابتزاز الفلسطينيين في جيش الاحتلال الإسرائيلي
خيارات الهروب الأخرى
يمكن حصر خيارات المهاجمين الأخرى للهرب في التوجه إلى المستوطنات القربية من قرية دومة؛ وهي كيدا ومعاليه افرايم وكوخاف هشاحر، وكل هذه المستوطنات كما رصد "العربي الجديد"، محاطة بحراسة وأسيجة وكاميرات توثق الحركة على مدار الساعة، والطريقة الوحيدة لدخولها هي عبر البوابات الرئيسية التي يحرسها جنود الجيش الإسرائيلي على مدار الساعة.
عمليات "التمشيط والمطاردة" التي نفذها جيش الاحتلال في أعقاب الهجوم بدأت بعد عدة ساعات من تنفيذ الهجوم، كما قال المعلق العسكري الإسرائيلي، روني دانيال، وهو ما يؤكد عدم جدية جيش الاحتلال في اعتقال المهاجمين.
يتوقع رئيس المجلس البلدي لقرية دومة، أن يكون مصير تحقيق إحراق أسرة الدوابشة، مثل مصير الشكاوى السابقة التي تقدم بها أهالي القرية. يقول عبد السلام أبو علان "تزايدت هجمات المستوطنين مؤخراً على القرية. قدمنا عدة شكاوى للجيش، وكانت موثقة بصور تكشف هوية المهاجمين، وبعد كل اعتداء يأتي الجيش والشرطة الإسرائيلية مثل الحمل الوديع، ويقولون إنهم سيقومون بملاحقة الجناة، ولكن لم يُقدم منهم أحد إلى المحاكمة".
أسباب تواطؤ الحكومة الإسرائيلية
تؤكد حادثة اعتقال المستوطن الإسرائيلي، جاك تاتيل عام 2009، بعد محاولته اغتيال البروفيسور الإسرائيلي اليساري زئيف شتيرن هل، تواطؤ الحكومة الإسرائيلية وعدم جديتها في ملاحقة المستوطنين المتورطين في جرائم ضد الفلسطينيين، إذ سبق أن قتل تاتيل في العام 1997 مواطنين فلسطينيين؛ هما سمير أكرم البلبيسي وسعيد عيسى جبارين، ولم تتم ملاحقته بعدها، بحسب ما قاله الخبير الفلسطيني في الشؤون الإسرائيلية، نهرو جمهور، لـ"العربي الجديد".
يتابع جمهور أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، خصوصا جهاز المخابرات "الشاباك" والشرطة متقاعسة عن التحقيق في ملف الإرهاب اليهودي. ويمضى جمهور قائلا "جهاز الشاباك قادر على اعتقال منفذي الهجوم على أسرة الدوابشة وبقية الهجمات، وحتى قادر على منع وقوع تلك الهجمات، لا سيما أن الإعلام الإسرائيلي كشف خلال السنوات الأخيرة في أكثر من مناسبة أن الشاباك، يملك مخبرين داخل تنظيم "جباية الثمن" الإرهابي وقيادة المستوطنين بالضفة الغربية".
ويستذكر الخبير الفلسطيني أن الشاباك، كان بانتظار عناصر تنظيم "جباية الثمن" في العام 2006 في القدس، لإحباط هجوم تم تسجيله بالصوت والصورة أثناء محاولتهم إحراق سيارة رجل شرطة إسرائيلي وكانت تلك أول عملية وآخر عملية إحباط لهجوم، ولكن السبب في إحباط الهجوم مثل حادثة شتيرن، يرجع إلى أن الهجوم يستهدف إسرائيليين.
تنظيم جباية الثمن
بعد مقتل الطفل الرضيع علي الدوابشة، واحتراق والديه وشقيقه محمد في الحادث، حرصت دولة الاحتلال على التنديد بالهجوم الإرهابي بوصفه جريمة نفذتها مجموعة متطرفة، ولكن مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة الغربية، غسان دغلس، يؤكد أن المجموعة التي نفذت الهجوم جزء من تنظيم "جباية الثمن" الإرهابي، قائلا "في حال تم احتجاز أي عنصر منهم من قبل الشرطة الإسرائيلية، فإنهم يصعدون هجماتهم ضد المواطنين الفلسطينيين، وممتلكاتهم على امتداد بقعة جغرافية طويلة خلال فترة زمنية قصيرة، ويتركهم الجيش".
ينفي رئيس مجلس بلدية دومة صحة ادعاء إسرائيل بأن مجموعات متطرفة عشوائية تقف خلف الهجمات المتصاعدة التي تستهدف قريته، قائلا "الاعتداءات تنفذها مجموعات منظمة تقف خلفها بنية هرمية إرهابية، والاعتداءات كبيرة ومؤلمة ومتكررة، وإحراق البساتين والاعتداء على المزارعين يتكرر كل يوم، ويشارك في تلك الهجمات أحيانا العشرات، بينما تمر دوريات الجيش الإسرائيلي وكأنها لا ترى المستوطنين يعتدون على الفلسطينيين".
وكانت القناة العاشرة الإسرائيلية قد نقلت عن الرائد حاييم نسيم، من وحدة التحقيقات المركزية بالشرطة الإسرائيلية في الضفة الغربية قوله "خلايا للمتطرفين مكونة من ثلاثة إلى خمسة أشخاص، وتحرص الخلايا على الكتمان، وثمة مستوى آخر أعلى ينسق ويوجه النشاطات"، ويزعم الضابط أن عدد عناصر "جباية الثمن" لا يتجاوز عددهم بضعة عشرات، ولكن رئيس ملف الاستيطان يشكك بذلك، مشيرا إلى أن الاعتداءات يشارك فيها العشرات، وكل منهم له دور محدد، ما يشير إلى تدريبهم وتأهيلهم.
"تحرص إسرائيل في أعقاب كل هجوم على تكرار الادعاء بأن جباية الثمن خلايا أو مجموعات مستقلة، وليست تنظيما إرهابياً"، لإعفاء دولة الاحتلال من تبعات اتهامها بتوفير الغطاء والدعم لتنظيم إرهابي، غالبية عناصره طلاب أو خريجي مدارس دينية تمولها الحكومة الإسرائيلية بحسب المحلل نهرو جمهور.
رصد "العربي الجديد" عبر مصادره، ما يؤكد ما قاله المحلل نهرو جمهور، إذ يوجد في مستوطنة شيلو في نابلس وفي مستوطنة كريات أربع، مدرستان دينيتان، تلقن طلبتها كتاب "شريعة الملك" للحاخامين يتسحاق شابيرا، يوسف اليتسور، الذي يبيح قتل أطفال غير اليهود (الأغيار) فيما يتم إخضاعهم لتدريبات عسكرية بأيدي جنود من الخدمة الاحتياطية في جيش الاحتلال؛ وهو ما يؤكده عدد من وسائل الإعلام العبرية.
وكانت القناة الثانية الإسرائيلية بثت العام الماضي تحقيقا تلفزيونيا، وثق محاضرات يلقيها عناصر سابقون في تنظيم كاهنا الإرهابي الذي نشط خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي على عناصر تنظيم "جباية الثمن"، تتمحور حول سبل مقاومة الاستجواب والصمود خلال التحقيقات.
ويسأل معد التحقيق إرهابيا من "جباية الثمن" حضر المحاضرة "عندما تسمع نبأ إضرام النار بمسجد. بماذا تشعر؟"، فيجيب "ينتابني شعور سيئ لكونهم فقط أحرقوا مسجدا، وأننا فقط ألحقنا الأذى بالممتلكات وليس بالأرواح، نكون بذلك قد فوتنا فرصة، إنه أمر مثير للسعادة، عندما يتم حرق مسجد، ولكن الأمر، أصبح مملا".
وتشير معطيات جمعية "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية إلى أن عناصر "جباية الثمن" أضرموا النار منذ عام 2008 في خمسة عشر منزلا في الضفة الغربية دون أن يتم اعتقال أي من المنفذين، إلى جانب إحراق أكثر من 20 مسجداً وكنيسة، لكن الحالة الوحيدة التي تم اعتقال المهاجمين فيها، هي حادثة إحراق كنيسة الخبز والسمك في طبريا قبل أسبوع واحد، بعد أن أصدر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تعليماته لجهاز المخابرات الإسرائيلية "الشاباك" بمنح التحقيق أفضلية، وهو ما لم يتم في حالة قتل الربيع علي الدوابشة.
اقرأ أيضاً:
بنك الجلد الإسرائيلي: جثامين الشهداء في خدمة القاتل