منذ انتشار فيروس كورونا على مستوى عالمي، راجت الكتابات التي تستدعي تاريخ الأوبئة، لكن ذلك حدث في منطقتين، استرجاع الأعمال الأدبية التي تناولت الأوبئة وأبرزها روايات لتوماس مان وجوزيه ساراماغو وألبير كامو، أو كتابات ضمن علوم إنسانية مثل التاريخ وعلم الاجتماع وغيرها.
في ما عدا كتابات تتناول الخوف من الواقع الجديد، وعلاقة الإنسان بالعالم مع ظروف العزلة الإجبارية، فإن الفلسفة بدت محتشمة في الإدلاء بدلوها حول الجائحة. تأتي سلسلة مقالات ينشرها الباحث الفرنسي روجيه بول دروا بانتظام في جريدة "لوموند"، بدأت منذ قرابة شهر ووصلت هذا الأسبوع إلى عددها الرابع الذي يتناول موت الفيلسوف الألماني جورج فريدريش هيغل، الذي رحل عام 1831 ضحية وباء الكوليرا، وهو في قمة أمجاده الفكرية في بداية العقد السادس من حياته.
يرى دروا أن وباء الكوليرا الذي راح ضحيّته أشهر "عقل ألماني" في زمنه يشير إلى أن العولمة ظاهرة أقدم من التسمية التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين، حيث يعود إلى فهم انتشار الكوليرا وقتها فيجد أنها بدأت في الهند عام 1826 ووصلت ألمانيا بعد المرور من روسيا، كما يشير إلى أن هيغل لم يكن الضحية الفكرية الوحيدة فبعد سنة من رحيله توفّي عالم المصريات الفرنسي شامبليون، الذي تتضارب الآراء إن كان قد أصيب من جولته في مصر أو مع عودته إلى بلاده.
من النقاط الطريفة التي يلتقطها دروا في تأريخه لعلاقة الفلاسفة بالوباء أن الكوليرا حين وصلت برلين كانت المدينة تعيش على وقع صراع بين عملاقين؛ هيغل وشوبنهاور، فلما حلّ المرض بدا الأول غير قلق من الجائحة على خلفية قلة اختلاطه بالناس وهو شكل من "الشجاعة" دفع ثمنه بعد أسابيع، أما المفارقة الأبرز فتتعلق بشوبنهاور الذي عُرف كفيلسوف متشائم وكاره للحياة، لكن مع أنباء وصول الكوليرا إلى برلين فرّ بحياته إلى فرانكفورت فلم يمت إلا بعد حياة مديدة (رحل في 1860).
في الحلقات السابقة من السلسلة، تناول روجيه بول دروا وباء ضرب أثينا زمن سقراط معتبراً أن تأملات الأخير في الموت المنتشر أمامه يمثّل إحدى فرضيات ما يُعرف بـ"المعجزة الإغريقية"، والتي تعني ولادة الفلسفة. وفي الحلقة الثانية، تناول الكاتب الفرنسي ميشيل دو مونتاني الذي فرّ من طاعون ضرب مدن فرنسا في القرن السادس عشر، وكان الترحل هرباً من الموت فرصة للكاتب كي يبني معرفة مباشرة بالعالم، بعيداً عن التحصيل المعرفي عبر الكتب. وتناولت الحلقة الثالثة إصابة فولتير وهو في التاسعة والعشرين من عمره بوباء ضرب فرنسا في القرن الثامن عشر، وقد نجا صاحب "القاموس الفلسفي" بأعجوبة منه.