انتهت الدورة الـ40 لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" بصخبٍ إعلامي تعتاده وسائل تلفزيونية ومواقع إلكترونية، غير مهتمّة بالسينما وأفلامها وهمومها وجمالياتها وتأمّلاتها واقتصادها. صخب تتبوّأ صدارة صُنعه محطات تلفزيونية مكترثة بنجومٍ يغلب عليهم الطابع المحلي، وبخطاب ممجوج عن وطنيات وبلد وفولكلور، وبأزياء تتنافس مذيعات على من هي أكثرهنّ فهمًا وإدراكًا في هذا المجال، بينما يطرح بعضهنّ أسئلة مُكرّرة فتكون الأجوبة مسطّحة ومتشابهة.
صخب الإعلام التلفزيوني المصري إزاء مهرجان ـ يحمل اسم القاهرة، وله تاريخ من الحضور والتأثّر والتأثير ـ غير معنيّ بأحوال دورة يُفترض بها أن تفترق عن دورات سابقة، بتقديمها بعض المفيد وبعض الجديد وبعض المختلف. لكن السابق على حفلة الختام ـ المعروف دوليًا باسم "السجادة الحمراء"، والذي تتباهى مذيعات تلفزيونيات بلفظه بإنكليزية ركيكة ونبرة باهتة ـ يُشعِل حراكًا ينفضّ عن السينما لشدّة سذاجته وسطحيته، رغم تدخّل جهات رسمية فيه لوضع حدّ لـ"مهزلة"، يظنّ قيّمون على الجهات تلك أنها ناشئة من سلوكٍ يرفضونه وينقضّون عليه.
المثل الأبرز على ذلك كامنٌ في الضجّة المفتعلة حول فستان رانيا يوسف، التي تعرّضت لهجوم وتقريع وتوبيخ على "زيّ فاضح" ارتدته لحضور حفلة الختام (وهو زيّ قبيح لا فاضح)، إلى درجة أن "نقابة المهن التمثيلية" عبّرت عن "انزعاجها" من "مظهر" بعض ضيفات الحفلة نفسها، مرتكزة في بيانها على أن "كثيرين من المهتمّين بالشأن الثقافي والفني" عبّروا هم أيضًا عن انزعاجهم. والنقابة تريد تحقيقًا "مع من تراه تجاوز في حقّ المجتمع، وسيلقى الجزاء المناسب، حتى تضمن عدم تكرار ذلك"، والتحقيق سيُجرى "بالتنسيق مع الإدارة العليا للمهرجانات واتحاد النقابات الفنية".
بين فستان رانيا يوسف وموقف النقابة وضجيج وسائل التواصل الاجتماعي، بدا المشهد عاديًا للغاية في مدينة كالقاهرة مقيمة في تناقضاتها القاسية. الأسوأ من ذلك حاضرٌ في إجابات ضيوف مصريين عن سؤالين اثنين: ما هو رأيك في الدورة الجديدة؟ وما هي الأفلام التي أعجبتك؟ الفضيحة كامنةٌ في أنّ ممثلات عديدات يمتلكن إجابات واحدة كأنها مُنزلة عليهنّ من قيادة مركزية أو من إدارة عامة: إطراء يُمكن أن يُقال في مناسبات كثيرة، بينما غالبيتهنّ الساحقة لا يعرفن عناوين الأفلام التي شاهدنها و"أُعجبن" بها.
لكن الدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" أكبر من صخب عابر، وأهمّ من ضجّة تلفزيونية ومتابعة إعلامية تهتم بحفلتي الافتتاح والختام. فالبرنامج حافلٌ بنتاجات حديثة مثيرة لنقاشات نقدية مختلفة منذ عروضها الدولية الأولى في مهرجانات أساسية، كبرلين و"كانّ" وفينيسيا وغيرها؛ وبعض العروض جاذبٌ لمشاهدين يملأون الصالات المخصّصة بالمهرجان في "دار الأوبرا"، لمتابعة المعروض ومشاهدة الأفلام والتنبّه إلى عوالم سينمائية مختلفة، علمًا أن الدورة الحالية شهدت ثرثرة أخفّ، واستخدامًا أقلّ للهواتف المحمولة. أما خروج مشاهدين أثناء العرض فاستثنائيّ، إذْ تبدو البرمجة غنيّة بما يرغب هؤلاء في مشاهدته.
لكن هذا كلّه لا يشمل العروض كلّها. فالتفاصيل المذكورة تحدث بين حين وآخر، في هذه القاعة أو تلك، علمًا أن عاملين في "دار الأوبرا" لا ينتبهون إلى ضرورة الصمت المطلق أثناء العرض. كما أن البعض رفض الامتثال لنظام يُراد له ترتيب الجلوس في "المسرح الكبير" مثلاً وفقًا للبطاقات التي حصل عليها، إذْ توجد في المسرح طوابق وشرفات مختلفة. فالبعض هذا تعامل مع الشابات المتطوّعات بمنطق فوقي وبمفهوم الضحية (الشيخوخة والتعب يحولان دون تحرّك سليم)، ونادرًا ما استجاب البعض لمطالب المتطوّعات بضرورة الالتزام بالمقاعد المخصّصة لهم وفقًا للبطاقات، خصوصًا أن مقاعد "المسرح الكبير" محجوزة بكاملها في عروض عديدة.
الشابات والشبان المتطوّعون يلتزمون المطلوب منهم. هذا واضح في تصرّفاتهم وتحرّكاتهم. لكن الحسّ الشبابيّ طاغٍ أيضًا في البرمجة والإدارة والاهتمام الثقافي والفني بسينما مختلفة، عربية وأجنبية. ما قاله محمود حميدة في تقديم حفلة الختام يعكس شيئًا من أسلوب محمد حفظي، رئيس الدورة الـ40، أكثر المعنيين بالهمّ الشبابي إنتاجًا ومتابعة ومواكبة واشتغالاً. فحميدة اعتبر أن السينما "هي الشباب الدائم" وأن اكتمالها وبهاءها متأتيان من "صنّاع شبابها المقبلين على الحياة".
هذا ملموس في اهتمام واضح بسينما شبابية، مصرية وعربية تحديدًا، ما يُذكِّر بالفعل الثقافي للناقد الراحل سمير فريد، عند تولّيه رئاسة الدورة الـ36 (9 ـ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014). كما هو ملموس بتأكيد أهمية حضور الشباب في مفاصل المهرجان وبرامجه ومسابقاته، بدءًا من تعيين أحمد شوقي في منصب نائب المدير الفني. ولهذا انعكاسات إيجابية تحتاج إلى وقتٍ واشتغال لظهور تأثيراتها وأفعالها التجديدية. فاختيار 3 أفلام مصرية على الأقلّ للمشاركة في الدورة الأخيرة هذه، وفوز اثنين منها بجوائز مختلفة، دليلٌ على ما هو أعمق من رغبة عابرة: هذا توجّه ثقافي فني متكامل. فإلى جانب "ورد مسموم"، الفائز بـ3 جوائز (صندوق الأمم المتحدة للسكان، و"صلاح أبو سيف ـ جائزة لجنة التحكيم الخاصة" في مسابقة "آفاق السينما العربية"، وأفضل فيلم عربي)، و"ليل/ خارجي" لأحمد عبدالله السيّد (جائزة أفضل ممثل لشريف الدسوقي)، هناك أول خطوة إخراجية لأحمد مجدي، بعنوان "لا أحد هناك".
صخب الإعلام التلفزيوني المصري إزاء مهرجان ـ يحمل اسم القاهرة، وله تاريخ من الحضور والتأثّر والتأثير ـ غير معنيّ بأحوال دورة يُفترض بها أن تفترق عن دورات سابقة، بتقديمها بعض المفيد وبعض الجديد وبعض المختلف. لكن السابق على حفلة الختام ـ المعروف دوليًا باسم "السجادة الحمراء"، والذي تتباهى مذيعات تلفزيونيات بلفظه بإنكليزية ركيكة ونبرة باهتة ـ يُشعِل حراكًا ينفضّ عن السينما لشدّة سذاجته وسطحيته، رغم تدخّل جهات رسمية فيه لوضع حدّ لـ"مهزلة"، يظنّ قيّمون على الجهات تلك أنها ناشئة من سلوكٍ يرفضونه وينقضّون عليه.
المثل الأبرز على ذلك كامنٌ في الضجّة المفتعلة حول فستان رانيا يوسف، التي تعرّضت لهجوم وتقريع وتوبيخ على "زيّ فاضح" ارتدته لحضور حفلة الختام (وهو زيّ قبيح لا فاضح)، إلى درجة أن "نقابة المهن التمثيلية" عبّرت عن "انزعاجها" من "مظهر" بعض ضيفات الحفلة نفسها، مرتكزة في بيانها على أن "كثيرين من المهتمّين بالشأن الثقافي والفني" عبّروا هم أيضًا عن انزعاجهم. والنقابة تريد تحقيقًا "مع من تراه تجاوز في حقّ المجتمع، وسيلقى الجزاء المناسب، حتى تضمن عدم تكرار ذلك"، والتحقيق سيُجرى "بالتنسيق مع الإدارة العليا للمهرجانات واتحاد النقابات الفنية".
بين فستان رانيا يوسف وموقف النقابة وضجيج وسائل التواصل الاجتماعي، بدا المشهد عاديًا للغاية في مدينة كالقاهرة مقيمة في تناقضاتها القاسية. الأسوأ من ذلك حاضرٌ في إجابات ضيوف مصريين عن سؤالين اثنين: ما هو رأيك في الدورة الجديدة؟ وما هي الأفلام التي أعجبتك؟ الفضيحة كامنةٌ في أنّ ممثلات عديدات يمتلكن إجابات واحدة كأنها مُنزلة عليهنّ من قيادة مركزية أو من إدارة عامة: إطراء يُمكن أن يُقال في مناسبات كثيرة، بينما غالبيتهنّ الساحقة لا يعرفن عناوين الأفلام التي شاهدنها و"أُعجبن" بها.
لكن الدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" أكبر من صخب عابر، وأهمّ من ضجّة تلفزيونية ومتابعة إعلامية تهتم بحفلتي الافتتاح والختام. فالبرنامج حافلٌ بنتاجات حديثة مثيرة لنقاشات نقدية مختلفة منذ عروضها الدولية الأولى في مهرجانات أساسية، كبرلين و"كانّ" وفينيسيا وغيرها؛ وبعض العروض جاذبٌ لمشاهدين يملأون الصالات المخصّصة بالمهرجان في "دار الأوبرا"، لمتابعة المعروض ومشاهدة الأفلام والتنبّه إلى عوالم سينمائية مختلفة، علمًا أن الدورة الحالية شهدت ثرثرة أخفّ، واستخدامًا أقلّ للهواتف المحمولة. أما خروج مشاهدين أثناء العرض فاستثنائيّ، إذْ تبدو البرمجة غنيّة بما يرغب هؤلاء في مشاهدته.
لكن هذا كلّه لا يشمل العروض كلّها. فالتفاصيل المذكورة تحدث بين حين وآخر، في هذه القاعة أو تلك، علمًا أن عاملين في "دار الأوبرا" لا ينتبهون إلى ضرورة الصمت المطلق أثناء العرض. كما أن البعض رفض الامتثال لنظام يُراد له ترتيب الجلوس في "المسرح الكبير" مثلاً وفقًا للبطاقات التي حصل عليها، إذْ توجد في المسرح طوابق وشرفات مختلفة. فالبعض هذا تعامل مع الشابات المتطوّعات بمنطق فوقي وبمفهوم الضحية (الشيخوخة والتعب يحولان دون تحرّك سليم)، ونادرًا ما استجاب البعض لمطالب المتطوّعات بضرورة الالتزام بالمقاعد المخصّصة لهم وفقًا للبطاقات، خصوصًا أن مقاعد "المسرح الكبير" محجوزة بكاملها في عروض عديدة.
الشابات والشبان المتطوّعون يلتزمون المطلوب منهم. هذا واضح في تصرّفاتهم وتحرّكاتهم. لكن الحسّ الشبابيّ طاغٍ أيضًا في البرمجة والإدارة والاهتمام الثقافي والفني بسينما مختلفة، عربية وأجنبية. ما قاله محمود حميدة في تقديم حفلة الختام يعكس شيئًا من أسلوب محمد حفظي، رئيس الدورة الـ40، أكثر المعنيين بالهمّ الشبابي إنتاجًا ومتابعة ومواكبة واشتغالاً. فحميدة اعتبر أن السينما "هي الشباب الدائم" وأن اكتمالها وبهاءها متأتيان من "صنّاع شبابها المقبلين على الحياة".
هذا ملموس في اهتمام واضح بسينما شبابية، مصرية وعربية تحديدًا، ما يُذكِّر بالفعل الثقافي للناقد الراحل سمير فريد، عند تولّيه رئاسة الدورة الـ36 (9 ـ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014). كما هو ملموس بتأكيد أهمية حضور الشباب في مفاصل المهرجان وبرامجه ومسابقاته، بدءًا من تعيين أحمد شوقي في منصب نائب المدير الفني. ولهذا انعكاسات إيجابية تحتاج إلى وقتٍ واشتغال لظهور تأثيراتها وأفعالها التجديدية. فاختيار 3 أفلام مصرية على الأقلّ للمشاركة في الدورة الأخيرة هذه، وفوز اثنين منها بجوائز مختلفة، دليلٌ على ما هو أعمق من رغبة عابرة: هذا توجّه ثقافي فني متكامل. فإلى جانب "ورد مسموم"، الفائز بـ3 جوائز (صندوق الأمم المتحدة للسكان، و"صلاح أبو سيف ـ جائزة لجنة التحكيم الخاصة" في مسابقة "آفاق السينما العربية"، وأفضل فيلم عربي)، و"ليل/ خارجي" لأحمد عبدالله السيّد (جائزة أفضل ممثل لشريف الدسوقي)، هناك أول خطوة إخراجية لأحمد مجدي، بعنوان "لا أحد هناك".