14 نوفمبر 2024
"الكود الأخلاقي" للربيع العربي
أن تتعثر الثورات عند اصطدامها بحواجز الثورة المضادة، هذا متوقع. ولا يعني هذا بالضرورة فشلها. وأن تتفرّق مياه نهرها بسبب التعارض في الرؤى أو المصالح، فهذا وارد، لكن الثورات تتجذّر على نحوٍ يستعصي على الاستئصال، عندما يصبح لديها "الكود الأخلاقي" الخاص بها، وهو ما تحقق، إلى حد كبير، في الموجة الثانية من ثورات "الربيع العربي".
والبشر يتحرّكون، فرادى وجماعات، وفقاً لاختياراتٍ أخلاقية، مضمرة أو معلنة، وهم كذلك يعبرون مفترقات الطرق التاريخية، بناءً على ما يرسخ في ضمائرهم من قناعات أخلاقية، قبل أي اعتبارٍ آخر. وربما لهذا السبب تبدو مطالبات الثوار "غير واقعية" في نظر كثيرين. لكنها في الحقيقة انعكاس لواقعٍ أخلاقي سبق الواقع السياسي بمسافةٍ كبيرة، ولم يعد ممكناً إعادته إلى حالة التطابق مع الواقع السياسي المهترئ، أخلاقياً أولاً. فالتقدير السياسي، في حالاتٍ كثيرة، قابل للقولبة والتدجين والتبرير، فيما التقييم الأخلاقي صارم وواضح وبسيط ومتّسق مع الفطرة الإنسانية السوية. وهي البوصلة الحقيقية للثورات التي لا تشعلها رؤية أيديولوجية تقليدية، ولا يمسك لجام فرسها الجامح تنظيم هرمي.
في مصر، على سبيل المثال، كانت قضية وفاة المواطن خالد سعيد (2010) قبل ثورة 25 يناير الدافع الأكبر لانخراط فئات اجتماعية في الحراك السابق على الثورة، لم يسبق لها الانخراط المباشر في السياسة. وكان ذلك تعبيراً عن "حساسية جديدة" في المجتمع المصري إزاء سفك الدم، وهو ما يتجاوز المصالح السياسية والتقسيمات الأيديولوجية. واليوم، يكترث المصرّون بشكل أكثر وضوحاً لواقعة تنمّر أو حادثة قتلٍ ذات دلالات اجتماعية. ولا تزال
قضية مقتل شابٍ بسبب حمايته فتاةً من التحرّش قبل أسابيع تشغل الإعلام الاجتماعي، وبعدها كانت حادثة الشاب الذي قتل بسبب قفزه من القطار و...
وكثير مما كان يبدو في نظر بعضهم في مصر ولبنان والعراق والجزائر ثمناً لا مفرّ من دفعه إلى الاستمرار والاستقرار، صار مما لا تراجع عن المطالبة باستئصاله. فالفساد الوحشي المتفشّي في دواليب البيروقراطية العربية، وإن تفاوتت درجة حدّته من بلد إلى آخر، يظل سمةً بنيويةً في أداء دولة ما بعد الاستعمار العسكري الغربي المباشر. وقد يكون صحيحاً أن فاتورة الفساد أخيراً تضخّمت بنحو مريع، وقد يكون صحيحاً أن الزيادة السكانية خلال نصف القرن الماضي ضاعفت عدد السكان في بعض الدول، ولكن موقف الرفض التام للتعايش مع الفساد يرتبط، قطعياً، بتحوّل سياسي/ أخلاقي، في آنٍ واحد. واختفاء أدبيات التبرير من الخطاب الرسمي، من قبيل أن "الفساد موجود في كل مكان في العالم"، مؤشّر على وعيٍ لدى السلطة بأن الشعوب عبرت حاجز "خداع النفس"، وأصبحت تسمّي المخازي بأسمائها، وتوجه أصابع الاتهام إلى كل من يجب اتهامه، كائناً من كان. وهو تحوُّل يبدأ أخلاقياً ثم تعكسه السياسة: لغةً وممارسةً.
وبالعودة إلى الحساسية الجديدة تجاه سفك الدماء، نلحظ أنه يصاحبها اهتمامٌ متزايدٌ بالاستنكار العلني الواسع الرفض للممارسات الفردية والجماعية غير الإنسانية، مثل: التنمر، أو التحامل، أو التحرّش، أو... ويترافق هذا مع رفضٍ أكثر جذريةً لتجاوزات الأجهزة الأمنية بشكلٍ عام، في رفضٍ تزداد دائرة انتشاره لصفقات من نوع: "الاستقرار مقابل القمع". وهي، وغيرها، تفاهماتٌ ضمنيةٌ مكّنت النخب الرسمية قبل "الربيع العربي" من الاستمرار عدة عقود، وشرائح واسعة من المجتمع كانت تتعايش مع هذا "التواطؤ العام"، بل قد تدافع عنه. والدول التي تشهد الموجة الثانية من "الربيع العربي" تشهد مظاهراتها سلوكياتٍ تستحق التوقف عندها. والرموز التي تحفل بها التظاهرات تعكس وعياً إنسانياً لا يمكن أن يوزَن بميزان "المصالح" أو "الأيديولوجيات". فعلم فلسطين، مثلاً، قد يكون حاضراً في تظاهرةٍ مصريةٍ أو لبنانيةٍ أو عراقية أو جزائرية. ومصر، كذلك، يمكن أن تجدها في هتاف أو أنشودة في وهران أو بيروت أو...
والتحولات المستندة إلى أساس أخلاقي أكثر رسوخاً من التحوّلات السياسية المباشرة، فضلاً عن أنها أقدر على جمع المختلفين، وتجاوز حدود الدولة الوطنية من دون أن تثير حساسياتٍ سياسية أو أيديولوجية. والوجه الأكثر وضوحاً لمستقبل التغيير في العالم العربي أخلاقي، فالخروج من المستنقع العربي مرهونٌ بحياةٍ أكثر إنسانية، وسلطة أقل فساداً، ومثقفين أقل نفاقاً، بأكثر مما يمكن أن يكون مرتبطاً بخيار اقتصادي أو سياسي، بمعناه الكلاسيكي المدرسي، والقيم هي واسطة العقد بين الموارد وأشكال التنظيم، وهي تتبلور بالتدريج في الموجة الثانية من ثوراتنا.
في مصر، على سبيل المثال، كانت قضية وفاة المواطن خالد سعيد (2010) قبل ثورة 25 يناير الدافع الأكبر لانخراط فئات اجتماعية في الحراك السابق على الثورة، لم يسبق لها الانخراط المباشر في السياسة. وكان ذلك تعبيراً عن "حساسية جديدة" في المجتمع المصري إزاء سفك الدم، وهو ما يتجاوز المصالح السياسية والتقسيمات الأيديولوجية. واليوم، يكترث المصرّون بشكل أكثر وضوحاً لواقعة تنمّر أو حادثة قتلٍ ذات دلالات اجتماعية. ولا تزال
وكثير مما كان يبدو في نظر بعضهم في مصر ولبنان والعراق والجزائر ثمناً لا مفرّ من دفعه إلى الاستمرار والاستقرار، صار مما لا تراجع عن المطالبة باستئصاله. فالفساد الوحشي المتفشّي في دواليب البيروقراطية العربية، وإن تفاوتت درجة حدّته من بلد إلى آخر، يظل سمةً بنيويةً في أداء دولة ما بعد الاستعمار العسكري الغربي المباشر. وقد يكون صحيحاً أن فاتورة الفساد أخيراً تضخّمت بنحو مريع، وقد يكون صحيحاً أن الزيادة السكانية خلال نصف القرن الماضي ضاعفت عدد السكان في بعض الدول، ولكن موقف الرفض التام للتعايش مع الفساد يرتبط، قطعياً، بتحوّل سياسي/ أخلاقي، في آنٍ واحد. واختفاء أدبيات التبرير من الخطاب الرسمي، من قبيل أن "الفساد موجود في كل مكان في العالم"، مؤشّر على وعيٍ لدى السلطة بأن الشعوب عبرت حاجز "خداع النفس"، وأصبحت تسمّي المخازي بأسمائها، وتوجه أصابع الاتهام إلى كل من يجب اتهامه، كائناً من كان. وهو تحوُّل يبدأ أخلاقياً ثم تعكسه السياسة: لغةً وممارسةً.
وبالعودة إلى الحساسية الجديدة تجاه سفك الدماء، نلحظ أنه يصاحبها اهتمامٌ متزايدٌ بالاستنكار العلني الواسع الرفض للممارسات الفردية والجماعية غير الإنسانية، مثل: التنمر، أو التحامل، أو التحرّش، أو... ويترافق هذا مع رفضٍ أكثر جذريةً لتجاوزات الأجهزة الأمنية بشكلٍ عام، في رفضٍ تزداد دائرة انتشاره لصفقات من نوع: "الاستقرار مقابل القمع". وهي، وغيرها، تفاهماتٌ ضمنيةٌ مكّنت النخب الرسمية قبل "الربيع العربي" من الاستمرار عدة عقود، وشرائح واسعة من المجتمع كانت تتعايش مع هذا "التواطؤ العام"، بل قد تدافع عنه. والدول التي تشهد الموجة الثانية من "الربيع العربي" تشهد مظاهراتها سلوكياتٍ تستحق التوقف عندها. والرموز التي تحفل بها التظاهرات تعكس وعياً إنسانياً لا يمكن أن يوزَن بميزان "المصالح" أو "الأيديولوجيات". فعلم فلسطين، مثلاً، قد يكون حاضراً في تظاهرةٍ مصريةٍ أو لبنانيةٍ أو عراقية أو جزائرية. ومصر، كذلك، يمكن أن تجدها في هتاف أو أنشودة في وهران أو بيروت أو...
والتحولات المستندة إلى أساس أخلاقي أكثر رسوخاً من التحوّلات السياسية المباشرة، فضلاً عن أنها أقدر على جمع المختلفين، وتجاوز حدود الدولة الوطنية من دون أن تثير حساسياتٍ سياسية أو أيديولوجية. والوجه الأكثر وضوحاً لمستقبل التغيير في العالم العربي أخلاقي، فالخروج من المستنقع العربي مرهونٌ بحياةٍ أكثر إنسانية، وسلطة أقل فساداً، ومثقفين أقل نفاقاً، بأكثر مما يمكن أن يكون مرتبطاً بخيار اقتصادي أو سياسي، بمعناه الكلاسيكي المدرسي، والقيم هي واسطة العقد بين الموارد وأشكال التنظيم، وهي تتبلور بالتدريج في الموجة الثانية من ثوراتنا.