"الكيخوطي"... أيقونة الروايات العابرة للأزمنة
وبالرغم من مرور قرون على ظهوره، فإنه ما زال يحظى باحتفاء كبير في موطنه الأصلي؛ إن داخل الفضاء الأكاديمي أو خارجه، وكأننا به يجدد صدوره كل عام. وقد أُنجزت حول الرواية العديد من الدراسات والقراءات النقدية، كما استوحيت منها الكثير من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، هذا بالإضافة إلى إبداعات أخرى تشكيلية وفنية.
أما ما يهمنا هنا فهو دورها التربوي التعليمي، الذي رصدته مجموعة من الكتب والدوريات توالى ظهورها طيلة القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة. وتوثق تلك الأعمال طبيعة الحضور الذي اتخذته في كل مرحلة، ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تم اعتمادها كمرجع أخلاقي وديني، وذلك بما يمثله "الدون كيشوت" من قدوة ونموذج للمسيحي الكاثوليكي الصالح، وهي قيم كان يُسعى لتمريرها للمتعلمين الإسبان آنذاك بما يتماشى وطبيعة المرحلة التي اتسم فيها الواقع الاجتماعي في البلد بنزوعه نحو المحافظة.
وفي الأربعينيات من القرن الماضي تغيّر الأمر واتخذت المقاربة مساراً آخر قوامه اتخاذ "الكيخوطي" رمزاً وطنياً وشعاراً لإسبانيا الدولة والوطن، وهو أمر يمكن إدراجه ضمن أشكال الدعاية لنظام "فرانكو" الفاشي الذي كان بحاجة لشرعنة سلطته بعد سنوات من حرب أهلية مزقت الأمة وقسمتها، وكان من نتائجها تراجع الشعور بالانتماء لجغرافيا بلد اسمه إسبانيا لدى الكثيرين.
واختلف الأمر قليلاً في العقود الأخيرة، إذ لم يعد البعد الأخلاقي بمرجعيته الدينية هو المستهدف من استدعائها من قبل النظام التعليمي، بل تمت الاستعاضة عن ذلك بالبعد القيمي الإنساني بما تمثلته شخصياتها من مثل عليا كالصبر والكرم والشجاعة والإخلاص والتعايش، يراد للأطفال والشباب المتمدرسين هم كذلك أن يتشبعوها في تلقيهم لها داخل فصول الدراسة ويفعلوها في علاقاتهم الاجتماعية المختلفة، هذا طبعاً مع اعتبارها مرجعاً تعليمياً لتدريس اللغة والأدب الإسبانيين، خصوصاً وهي المنتمية تاريخياً للعصر الذهبي لهذا الأدب.
ويبقى الثابت في الراهن من السنوات أن البلد الإيبيري ما زال يفرد لمنجز "سيرفانتيس" مساحة معتبرة ضمن توجهاته التربوية العامة، فنقف على وزارة التربية وهي تساهم في تخليد ذكرى "فاتحة عهد" جنس الرواية في مختلف المراحل التعليمية وسنواتها، فكان من النادر جداً أن تلفي طالباً خاض واحدة منها غير مطلع على أحداثها وشخصياتها. ولأجل تحقيق ذلك تبذل جهود كبيرة ينجزها المنتمون لمنظومة التربية والتعليم بكل تفانٍ وإخلاص، وقبلهما بوعي ونية مسبقين من لدنهم بجعلها رمزاً أدبياً يوصل من خلاله الطلاب بتراث "الوطن" الأدبي في عصوره الماضية.
ويحضر العمل داخل حجرات الدرس بأشكال مختلفة، فنقف عليه مضمنا في البرامج والمحتويات المدرسية (أتحدث هنا عن تجربة جاورت فيها إحدى المؤسسات التعليمية الإسبانية في المغرب)، كما يسجل "الدون كيخوطي" ورفاقه حضوراً يكاد يكون دائماً في الأنشطة السنوية الموازية المكملة للمقررات. ويتخذ الأمر صيغاً متنوعة، منها: أداءات تمثيلية، أو تحرير ملخصات لأجزاء من العمل في إطار منافسات ثقافية مدرسية، كما تنظم قراءات لمقاطع من الرواية يقدمها المتعلمون بمجموعة من اللغات المحلية والعالمية.
ويؤدّى ذلك في جو من الخشوع والوقار يجعلك تعتقد لوهلة بأنك أمام نص مقدس، إذ يصغي الجميع السمع في مهابة لا يكاد أحد يحرك فيها ساكناً، فينتصب الرفيق "سانشو بانثا" والحبيبة "دولثينيتا" أمام الجمع وكأنهما حقيقة الحقائق. وهكذا يتكرر الوقوف مع العمل تباعاً عاماً بعد عام، ليحفر في النفوس ويتغلغل فيها، فيصبح انتزاعه منها شبه مستحيل.
وأمام حالة اللاستقرار السياسي التي يعرفها البلد في السنوات الأخيرة؛ ممثلة في الصراع التي يعيشه المركز مع الأقاليم، وما استتبعه من تراجع حاد للشعور الوطني الجامع، مقابل تصاعد مطرد لمشاعر الانتماء الإقليمي، (كطالونيا والباسك نموذجاً) هذا مع حالة الصدمة التي تعيشها النخب المثقفة مع ظهور حزب يميني متطرف في البلد (فوكس) وحصوله على عدد مهم من المقاعد في الانتخابات الإسبانية الأخيرة، وما يرافق كل ذلك من سجال سياسي وقانوني حاد، فإن البعض يعتبر أن استدعاء نماذج أدبية أو فنية (الفنان التشكيلي بيكاسو مثال آخر) من ماضٍ مشترك مجيد والتداول فيها وحولها - في المؤسسات التعليمية وباقي الفضاءات العامة - قد يكون مفيداً لتقريب وجهات النظر وإعلاناً لحسن النوايا، أو على الأقل فرصة تأخذ فيها جميع الأطراف استراحة محارب استعداداً لجولات قادمة من المواجهة.
وكعادتنا - نحن العرب - إذ نبادر لمساءلة وضعنا كلما وقفنا على تجربة متميزة لدى الآخرين، فقد أثارني الأمر منتبهاً إلى افتقادنا لنموذج أدبي نتخذه مرجعاً كما يفعلون؛ نحبب من خلاله الأدب ونصوصه لشبابنا ونستنهض به الهمم. قد نتفق نعم ونعترف بتحقق الأمر في الماضي مع الجيل القديم من المتمدرسين، لكنه لم يعد كذلك مع أجيالنا الحالية التي غدت صلتها بتراثنا الأدبي ضعيفة جداً، هذا إن لم تكن منعدمة تماماً.
وهنا تعود بي الذاكرة سنوات إلى الوراء لأتذكر كيف كنا - ونحن صغار - مطلعين على الكثير من أمهات القصائد العربية (أو على أجزاء مهمة منها) وكذا سيرنا الشعبية الشهيرة: "الأميرة ذات الهمة"، "سيف بن ذي يزن"، "عنترة بن شداد"، قصص الرحالة "سندباد" الواردة في "ألف ليلة وليلة"، هذا مع الكثير من حكايات "كليلة ودمنة". وقد كانت الجهات الوصية على قطاع التعليم تساهم بدور كبير في ذلك؛ عبر تضمين الكتب المدرسية مجموعة من النصوص الشعرية والسردية القديمة، أو من خلال برمجة مجموعة من الأنشطة الموازية، كالمسرح المدرسي الذي كانت نصوصه المؤداة تستوحى في غالبها من تراثنا الأدبي الغني.
ولأننا لا نملك غير أقلامنا وكلماتنا، فإننا عبرها نتوجه إلى مسؤولي وزارات التربية والتعليم في البلدان العربية، راجين منهم أن ينتبهوا إلى أهمية الأمر ويعملوا على إعادة وصل ناشئتنا وطلابنا بماضيهم الشعري والأدبي. وهو أمر لا نعده ترفاً، كما قد يبدو للبعض، بل نجد له دوراً مهماً في إكسابهم ذوقاً جمالياً وفنياً، كما نراه مساهماً في تعزيز مشاعر الانتماء الوطني والقومي لديهم، خصوصاً في ظل واقع أمتنا المأسوي، إذ توالت عليها الانتكاسات وتقاذفتها أمواج الصراعات، فجهل فيها أبناؤها بماضيهم، وطفقوا يتبرأون منها ومن انتمائهم لها في كل لحظة وحين.