19 نوفمبر 2024
"اللامركزية النضالية" للمشروع الوطني الفلسطيني
إبراهيم فريحات
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وسابقاً في جامعتي جورجتاون وجورج واشنطن ومعهد بروكينجز. من مؤلفاته "وساطة الصراع في العالم العربي (جامعة سيركيوز- الولايات المتحدة 2023) و"إدارة صراع فوضوي" (جامعة أدنبرة في بريطانيا 2020) و"ثورات غير مكتملة" (جامعة ييل في الولايات المتحدة 2016).
منذ بداية الصراع مع المشروع الصهيوني في فلسطين، كان هناك دوماً رؤية سياسية لأهداف المشروع الوطني الفلسطيني، ومنهج يمكننا من القدرة على تحقيق هذه الرؤية. اليوم، ولأول مرة في التاريخ الحديث للقضية الفلسطينية، أصبحت رؤية الهدف والمنهج غائبتين، ما فاقم حالة الضعف والشرذمة التي يعايشها المشروع الوطني، فالخروج من المأزق يتطلب أولا إصلاح الخلل في الرؤية والمنهج، وهو ما سيساعد على معالجة التحديات السياسية التي تمر بها القضية الخارجية منها، مثل ما يصطلح عليها "صفقة القرن"، وداخلياً مثل الانقسام الذي جعل مهمة صياغة الرؤية أكثر صعوبة. في العادة، تقوم القيادة السياسية بصياغة الرؤى الوطنية وتقديمها للمجتمع للمصادقة عليها، سواء كان بالطريقة المباشرة، كالانتخاب والاستفتاء، أو من خلال مؤسسات سياسية ممثلة بطريقة أو بأخرى. في الحالة الفلسطينية، غيّبت القيادة السياسية، الرسمية منها والحزبية، نفسها، وقد ساعد الانقسام على هذا التغييب، الأمر الذي يلقي الكرة في ملعب النخب والقيادات المجتمعية والنقابية والمنظمات غير الحكومية، لتأخذ زمام المبادرة، وتنتقل بالمشروع الوطني الفلسطيني إلى ما يمكن الاصطلاح عليها بـ "اللامركزية النضالية" للمشروع الوطني.
عندما رفض قرار التقسيم، في العام 1947، كانت هناك رؤية تمثلت بالمحافظة على كامل التراب الفلسطيني، من النهر إلى البحر، والتدخل العسكري العربي منهجاً لتحقيق ذلك. وفي طرح البرنامج المرحلي عام 1947، حدث تحولٌ في الهدف، ولكن بقيت هناك رؤية تقول بإقامة الدولة على الجزء الذي يتم تحريره مع بقاء الكفاح المسلح الطريقة الوحيدة للتحرير. وفي عام 1993، وعلى الرغم من سوئه، إلا أن اتفاق أوسلو كان يمثل رؤيةً بغض النظر اتفقنا معها أم لم نتفق، وتنص على إقامة الدولة على حدود عام 1967، والمفاوضات طريقا للوصول إلى ذلك. في عام 2000، أدرك أبو عمار أن "أوسلو" فشل، وأن المفاوضات لم تعد تصلح منهجا للتحرير، فعاد إلى الكفاح المسلح ودفع حياته ثمناً لذلك، وحتى أحد أصحاب رؤية اتفاق أوسلو، الرئيس محمود عباس، لا ينكر فشل الاتفاق، ولو أنه يرى أن "أوسلو" قد تم إفشاله. وقد تمثلت أحدث رؤية عايشها المشروع الوطني الفلسطيني بالطرح الذي يقول ببناء مؤسسات الدولة الفلسطينية على الأرض، وهو ما سيأتي بالاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية تلقائيا. وقد طمأنت المجموعة الدولية الفلسطينيين بأن هذا هو النهج الذي سيمكّن الفلسطينيين من انتزاع الاعتراف بدولتهم، أي عندما يبنون مؤسساتٍ ديمقراطيةً تتمتع بحكم جيد، والأهم من ذلك كله تقوم بوظيفتها الأمنية تجاه المجتمع الفلسطيني وتجاه إسرائيل.
وقد جيء لهذه الرؤية بسلام فياض، الخبير في البنك الدولي وببناء المؤسسات والذي نجح إلى حد لا بأس به في بناء مؤسسات بيروقراطية وجهاز حكم إداري في مرحلة زمنية معينة.
والخطأ الكبير الذي أغفلته رؤية القيادة الفلسطينية آنذاك أن بناء مؤسسات دولةٍ قابلة للحياة هي بحاجة أولا للسيادة الوطنية التي لم يمتلكها الفلسطينيون، وبقيت بيد إسرائيل التي كان لها أن تهدم ما تبنيه القيادة الفلسطينية متى شاءت. ومع ذلك، وعلى الرغم من العيوب في استراتيجية بناء المؤسسات على الأرض، وارتباطها بالاعتراف الدولي، إلا أنها كانت تشكل رؤية ومنهجا لقيادة الكفاح الوطني الفلسطيني نحو التحرير. وبمغادرة فياض رئاسة الحكومة، تم عملياً إعلان وفاة هذه الرؤية، لا سيما بعد تنكر المجموعة الدولية للإيفاء بالتزاماتها تجاه من سهروا على تنفيذها فلسطينياً، ولم يشفع لهم لا بناء التنظيمات المالية التي تثلج صدر البنك الدولي، ولا بناء العقيدة الأمنية للأجهزة الأمنية للسلطة الوطنية الفلسطينية التي أثلجت صدر الجنرال الأميركي دايتون، من صاغ العقيدة الأمنية الفلسطينية آنذاك.
منذ تلك اللحظة أصبح المشروع الوطني الفلسطيني يعاني من فراغٍ على مستوى الرؤى والمنهج. وأخذ العمل القيادي الفلسطيني بعد ذلك دور "تصريف أعمال"، وتلبية احتياجات مرحلية وإدارية للمجتمع الفلسطيني. وتحول منهج عمل القيادة الفلسطينية في جوهره إلى ردّات فعل (reactive)، وغير منطلق من رؤيةٍ محدّدة تسعى إلى تحقيقها (pro-active)، وهو أخطر ما يمر به المشروع الوطني الفلسطيني في الوقت الحالي. حكومة التكنوقراط أو ما سميت حكومة الوفاق فاقمت أزمة الرؤى. ولا ينبغي أن يكون هذا مستغرباً، لأن التكنوقراط غالباً لا يضعون رؤىً ومشاريع سياسية، إلا إذا كانوا مؤطّرين سياسياً. ولكن يمكنهم أن ينفذوا رؤىً كهذه بحرفية ومهنية عاليتين، إذا ما أعطوا الفرصة ليقوموا بذلك. والسبب في عدم أهليتهم لوضع الرؤى السياسية هو ارتباط هذه الرؤى والمشاريع بمراكز القوى في الدولة، والتي تُمسك بها الأحزاب السياسية عادة، وليس أفراد تكنوقراط.
حالة الفراغ في الرؤى والمنهج لدى القيادة السياسية إذاً تعيد المشروع الوطني الفلسطيني إلى الحاضنة الشعبية، صاحبة الشرعية العليا في تحديد اتجاهه ومصيره، وهو المجتمع الفلسطيني نفسه، بما فيه من نخب سياسية وثقافية واجتماعية، ومنظمات غير حكومية، ونقابات مهنية، واتحادات طلبة وشباب ومرأة، وغير ذلك من القوى الاجتماعية التي تحتل حيزاً في الفضاء السياسي الفلسطيني، وتلعب دوراً معيناً في توجيه أفراده نحو التحرير وتقرير المصير، وهذا ما تطلق عليه هذه المقالة "اللامركزية النضالية" للشعب الفلسطيني، أي أن تقوم القوى الاجتماعية الفلسطينية، بمختلف توجهاتها وانتماءاتها السياسية والأيديولوجية، بتوجيه أعضائها نحو الدفع بالمشروع الوطني إلى الأمام، كل من موقعه وحسب قدراته، من دون الانتظار لأوامر قيادية عليا، رسمية كانت أو حزبية أو حتى تنتهي من صياغة رؤى ومناهج، فالمشروع الوطني واضح و"فطري" عند كل فلسطيني لا يحتاج إلى تأويلٍ كثير، فالهدف هو الحرية والمنهج مقاومة المحتل، كل حسب إمكاناته.
لا ينبغي التقليل من أهمية اللامركزية النضالية، وقدرتها على ملء الفراغ الذي تركه غياب الرؤية والمنهج للقيادة الرسمية الفلسطينية، فالمنظمات غير الحكومية الفلسطينية أثبتت أن في وسع اللامركزية في العمل النضالي أن تُحدث واقعاً جديداً ذا تأثير دولي، كما هو الحال في حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، أو ما تعرف بـ BDS التي اجتاحت تحديداً العالم الغربي اليوم، وأصبحت تشكل مصدر قلق دائم لإسرائيل التي ترى فيها محاولةً لنزع الشرعية عنها في المجتمع الدولي، والتي كان قد أطلقها تحالف منظمات مجتمع مدني فلسطيني، أخذ زمام المبادرة، ولم ينتظر قيادته الفلسطينية الرسمية أو الحزبية، حتى يقوم بدوره في الدفع بالمشروع الوطني إلى الأمام. ولا يخفى على بال أحد أن الانتفاضة الفلسطينية العارمة الأولى عام 1987 كانت، هي الأخرى، قد انطلقت تلقائياً، ومن الشعب الفلسطيني نفسه الذي أدرك اتجاه البوصلة الوطنية، عندما تم تغييب قيادته الوطنية، بإخراجها من بيروت عام 1982، فاندفع باتجاه التحرير، من دون أن يصوغ أحد برنامجا وطنيا رسميا له آنذاك.
المجتمع الفلسطيني اليوم بشرائحه المختلفة مطالبٌ بأن يأخذ زمام المبادرة، ويمضي، وبطريقة لا مركزية، باتجاه صياغة رؤى ومنهاج للمشروع الوطني الفلسطيني من القاعدة إلى القمة (bottom-up approach) من دون أن ينتظر، فالمشروع الوطني لا ينبغي أن ينتظر، وهو غير مسجل بأسماء قيادات رسمية، أو حزبية، فشلت حتى اللحظة بالخروج من أزماتها القيادية، كما وفشلت بتجاوز أزمة شق الصف الفلسطيني وإضعافه على الساحة الدولية، فالمنظمات غير الحكومية والاتحادات والنقابات المهنية والمثقفون والأكاديميون وغيرهم مطالبون بصياغة برامج نضالية تتناسب مع المجموعات التي تحملها، وتعمل بمجملها على النهوض بالمشروع الوطني. من أكثر ما يميز فشل الأحزاب السياسية الفلسطينية في الوقت الراهن هو غياب البرامج النضالية عن عملها، وقد تحوّل البرنامج الحقيقي لعملها إلى مقارعة بعضها بعضا، أكثر من مقارعتها الاحتلال. ولذا كان لا بد من حراكٍ مجتمعي، يقوم على صياغة برامج نضالية خاصة بالتجمعات المختلفة، كل حسب تركيبته وقدراته.
يجب أن لا يُفهم أن اللامركزية النضالية مطلب وطني، أو في وسعها أن تستعيض، بشكل دائم، عن القيادة الوطنية صاحبة المشروع والقائدة له، فالقيادة شرط لاستمرار الحراك الوطني وتوجيهه. ولكن وللأسف، يشهد الواقع الفلسطيني الحالي حالة الفراغ على مستوى القيادة، ما يجعل من اللامركزية النضالية ضرورةً، حتى يكون بناء للرؤية من القاعدة إلى القمة.
لدى الحكومة الفلسطينية المقبلة، والتي أطلق عليها أسماء مثل حكومة فصائلية وحكومة منظمة التحرير، وغير ذلك من تسمياتٍ، فرصةُ للعمل على صياغة برنامج سياسي يتمتع برؤية ومنهج عمل. نقول فرصةً، لأنها تختلف عن حكومة الوفاق التي سيطرت على المشهد الخمس سنوات الماضية، ووجد معظم أفرادها التكنوقراط أنفسهم يعملون على تشغيل الجوانب الإدارية والصحية والتعليمية للمجتمع الفلسطيني أكثر من صياغة وإدارة رؤية سياسية لمشروع وطني فلسطيني. هناك خطورةٌ بأن تتحول الحكومة الجديدة إلى أداة لتعميق الانقسام الفلسطيني. وإذا كان ذلك كذلك، يصبح من الضرورة المضاعفة أن يحمل المجتمع الفلسطيني، بشرائحه الاجتماعية ونقاباته واتحاداته، المشروع الوطني الفلسطيني، وصياغة برامج تعمل بطريقة اللامركزية النضالية.
عندما رفض قرار التقسيم، في العام 1947، كانت هناك رؤية تمثلت بالمحافظة على كامل التراب الفلسطيني، من النهر إلى البحر، والتدخل العسكري العربي منهجاً لتحقيق ذلك. وفي طرح البرنامج المرحلي عام 1947، حدث تحولٌ في الهدف، ولكن بقيت هناك رؤية تقول بإقامة الدولة على الجزء الذي يتم تحريره مع بقاء الكفاح المسلح الطريقة الوحيدة للتحرير. وفي عام 1993، وعلى الرغم من سوئه، إلا أن اتفاق أوسلو كان يمثل رؤيةً بغض النظر اتفقنا معها أم لم نتفق، وتنص على إقامة الدولة على حدود عام 1967، والمفاوضات طريقا للوصول إلى ذلك. في عام 2000، أدرك أبو عمار أن "أوسلو" فشل، وأن المفاوضات لم تعد تصلح منهجا للتحرير، فعاد إلى الكفاح المسلح ودفع حياته ثمناً لذلك، وحتى أحد أصحاب رؤية اتفاق أوسلو، الرئيس محمود عباس، لا ينكر فشل الاتفاق، ولو أنه يرى أن "أوسلو" قد تم إفشاله. وقد تمثلت أحدث رؤية عايشها المشروع الوطني الفلسطيني بالطرح الذي يقول ببناء مؤسسات الدولة الفلسطينية على الأرض، وهو ما سيأتي بالاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية تلقائيا. وقد طمأنت المجموعة الدولية الفلسطينيين بأن هذا هو النهج الذي سيمكّن الفلسطينيين من انتزاع الاعتراف بدولتهم، أي عندما يبنون مؤسساتٍ ديمقراطيةً تتمتع بحكم جيد، والأهم من ذلك كله تقوم بوظيفتها الأمنية تجاه المجتمع الفلسطيني وتجاه إسرائيل.
وقد جيء لهذه الرؤية بسلام فياض، الخبير في البنك الدولي وببناء المؤسسات والذي نجح إلى حد لا بأس به في بناء مؤسسات بيروقراطية وجهاز حكم إداري في مرحلة زمنية معينة.
منذ تلك اللحظة أصبح المشروع الوطني الفلسطيني يعاني من فراغٍ على مستوى الرؤى والمنهج. وأخذ العمل القيادي الفلسطيني بعد ذلك دور "تصريف أعمال"، وتلبية احتياجات مرحلية وإدارية للمجتمع الفلسطيني. وتحول منهج عمل القيادة الفلسطينية في جوهره إلى ردّات فعل (reactive)، وغير منطلق من رؤيةٍ محدّدة تسعى إلى تحقيقها (pro-active)، وهو أخطر ما يمر به المشروع الوطني الفلسطيني في الوقت الحالي. حكومة التكنوقراط أو ما سميت حكومة الوفاق فاقمت أزمة الرؤى. ولا ينبغي أن يكون هذا مستغرباً، لأن التكنوقراط غالباً لا يضعون رؤىً ومشاريع سياسية، إلا إذا كانوا مؤطّرين سياسياً. ولكن يمكنهم أن ينفذوا رؤىً كهذه بحرفية ومهنية عاليتين، إذا ما أعطوا الفرصة ليقوموا بذلك. والسبب في عدم أهليتهم لوضع الرؤى السياسية هو ارتباط هذه الرؤى والمشاريع بمراكز القوى في الدولة، والتي تُمسك بها الأحزاب السياسية عادة، وليس أفراد تكنوقراط.
حالة الفراغ في الرؤى والمنهج لدى القيادة السياسية إذاً تعيد المشروع الوطني الفلسطيني إلى الحاضنة الشعبية، صاحبة الشرعية العليا في تحديد اتجاهه ومصيره، وهو المجتمع الفلسطيني نفسه، بما فيه من نخب سياسية وثقافية واجتماعية، ومنظمات غير حكومية، ونقابات مهنية، واتحادات طلبة وشباب ومرأة، وغير ذلك من القوى الاجتماعية التي تحتل حيزاً في الفضاء السياسي الفلسطيني، وتلعب دوراً معيناً في توجيه أفراده نحو التحرير وتقرير المصير، وهذا ما تطلق عليه هذه المقالة "اللامركزية النضالية" للشعب الفلسطيني، أي أن تقوم القوى الاجتماعية الفلسطينية، بمختلف توجهاتها وانتماءاتها السياسية والأيديولوجية، بتوجيه أعضائها نحو الدفع بالمشروع الوطني إلى الأمام، كل من موقعه وحسب قدراته، من دون الانتظار لأوامر قيادية عليا، رسمية كانت أو حزبية أو حتى تنتهي من صياغة رؤى ومناهج، فالمشروع الوطني واضح و"فطري" عند كل فلسطيني لا يحتاج إلى تأويلٍ كثير، فالهدف هو الحرية والمنهج مقاومة المحتل، كل حسب إمكاناته.
لا ينبغي التقليل من أهمية اللامركزية النضالية، وقدرتها على ملء الفراغ الذي تركه غياب الرؤية والمنهج للقيادة الرسمية الفلسطينية، فالمنظمات غير الحكومية الفلسطينية أثبتت أن في وسع اللامركزية في العمل النضالي أن تُحدث واقعاً جديداً ذا تأثير دولي، كما هو الحال في حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، أو ما تعرف بـ BDS التي اجتاحت تحديداً العالم الغربي اليوم، وأصبحت تشكل مصدر قلق دائم لإسرائيل التي ترى فيها محاولةً لنزع الشرعية عنها في المجتمع الدولي، والتي كان قد أطلقها تحالف منظمات مجتمع مدني فلسطيني، أخذ زمام المبادرة، ولم ينتظر قيادته الفلسطينية الرسمية أو الحزبية، حتى يقوم بدوره في الدفع بالمشروع الوطني إلى الأمام. ولا يخفى على بال أحد أن الانتفاضة الفلسطينية العارمة الأولى عام 1987 كانت، هي الأخرى، قد انطلقت تلقائياً، ومن الشعب الفلسطيني نفسه الذي أدرك اتجاه البوصلة الوطنية، عندما تم تغييب قيادته الوطنية، بإخراجها من بيروت عام 1982، فاندفع باتجاه التحرير، من دون أن يصوغ أحد برنامجا وطنيا رسميا له آنذاك.
المجتمع الفلسطيني اليوم بشرائحه المختلفة مطالبٌ بأن يأخذ زمام المبادرة، ويمضي، وبطريقة لا مركزية، باتجاه صياغة رؤى ومنهاج للمشروع الوطني الفلسطيني من القاعدة إلى القمة (bottom-up approach) من دون أن ينتظر، فالمشروع الوطني لا ينبغي أن ينتظر، وهو غير مسجل بأسماء قيادات رسمية، أو حزبية، فشلت حتى اللحظة بالخروج من أزماتها القيادية، كما وفشلت بتجاوز أزمة شق الصف الفلسطيني وإضعافه على الساحة الدولية، فالمنظمات غير الحكومية والاتحادات والنقابات المهنية والمثقفون والأكاديميون وغيرهم مطالبون بصياغة برامج نضالية تتناسب مع المجموعات التي تحملها، وتعمل بمجملها على النهوض بالمشروع الوطني. من أكثر ما يميز فشل الأحزاب السياسية الفلسطينية في الوقت الراهن هو غياب البرامج النضالية عن عملها، وقد تحوّل البرنامج الحقيقي لعملها إلى مقارعة بعضها بعضا، أكثر من مقارعتها الاحتلال. ولذا كان لا بد من حراكٍ مجتمعي، يقوم على صياغة برامج نضالية خاصة بالتجمعات المختلفة، كل حسب تركيبته وقدراته.
يجب أن لا يُفهم أن اللامركزية النضالية مطلب وطني، أو في وسعها أن تستعيض، بشكل دائم، عن القيادة الوطنية صاحبة المشروع والقائدة له، فالقيادة شرط لاستمرار الحراك الوطني وتوجيهه. ولكن وللأسف، يشهد الواقع الفلسطيني الحالي حالة الفراغ على مستوى القيادة، ما يجعل من اللامركزية النضالية ضرورةً، حتى يكون بناء للرؤية من القاعدة إلى القمة.
لدى الحكومة الفلسطينية المقبلة، والتي أطلق عليها أسماء مثل حكومة فصائلية وحكومة منظمة التحرير، وغير ذلك من تسمياتٍ، فرصةُ للعمل على صياغة برنامج سياسي يتمتع برؤية ومنهج عمل. نقول فرصةً، لأنها تختلف عن حكومة الوفاق التي سيطرت على المشهد الخمس سنوات الماضية، ووجد معظم أفرادها التكنوقراط أنفسهم يعملون على تشغيل الجوانب الإدارية والصحية والتعليمية للمجتمع الفلسطيني أكثر من صياغة وإدارة رؤية سياسية لمشروع وطني فلسطيني. هناك خطورةٌ بأن تتحول الحكومة الجديدة إلى أداة لتعميق الانقسام الفلسطيني. وإذا كان ذلك كذلك، يصبح من الضرورة المضاعفة أن يحمل المجتمع الفلسطيني، بشرائحه الاجتماعية ونقاباته واتحاداته، المشروع الوطني الفلسطيني، وصياغة برامج تعمل بطريقة اللامركزية النضالية.
إبراهيم فريحات
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وسابقاً في جامعتي جورجتاون وجورج واشنطن ومعهد بروكينجز. من مؤلفاته "وساطة الصراع في العالم العربي (جامعة سيركيوز- الولايات المتحدة 2023) و"إدارة صراع فوضوي" (جامعة أدنبرة في بريطانيا 2020) و"ثورات غير مكتملة" (جامعة ييل في الولايات المتحدة 2016).
إبراهيم فريحات
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
10 يوليو 2024
05 مايو 2024