"المجتمع المدني" العربي بثيابه الرثة

09 ابريل 2015
تبدو العلاقة بالمجتمع المدني عربياً حزينة ومتشحة بالسواد (Getty)
+ الخط -

يبدو، من الحزم الذي تبديهِ السلطات العربية تجاه المجتمع المدني كمفهوم وممارسة، أنَّ هذا الكائن غريب عليها وغير مرغوب فيه، وكما أنَّ هذه السلطات تتعامل بعنجهية قبل الحذر مع الوافد، والذي تراه نجح في أماكن أخرى على حساب تقويض السلطات اللادستورية، فإنها ستصل والحال هنا إلى حدِّ القطيعة وإعلان الحرب على كل ما هو مدني وقادر على إخراج المفهوم من عطالتهِ كتنظير وميتا نظرية إلى حيزِ الوقائعي، بحيث يصبح دائرة مجتمعية منافسة في الدولة، ومنافستها تأتي من كونها تصبح طرفاً آخر ينظمّ المواطن ويجعل منهُ فرداً يعوّل عليه في البناء والمحاسبة والاستشراف ووضع الخطط.

لا يتمتع المجتمع العربي عموماً بفلسفةٍ شبيهةٍ بفلسفة الأنوار في فرنسا، تلكَ التي سنجدها حدَّت من المجتمع الفيودالي بتعريفه الأولي (إقطاعي، ارستقراطي، كهنوتي) وكذلك بمعناه السوسيولوجي، إذ إننا في هذا المجتمع المقيت نحن أمام الاحتكار والتراتبية وإيلاء الصفوة الاجتماعية شأناً على حساب العوام، مما يقربه من نظام الرق القائم على ثنائية (سيد وعبد)، في حين أنّ (المدني) كمجتمع، شأنهُ شأن الأفكار التي اتخذت على عاتقها تحرير الإنسان وإيلاءهُ الأهمية والأداة ليعملَ بكفاءته وضمن شروطٍ تعزّزُ مكانته وقدرته على التأثير والتغيير، لذلك سنجد عند ماندفيل، في كتابه "خرافة النحل"، دعوة للاستفادة من شرور الناس وأهوائهم في التجارة والعمل بكل أصنافه، لأن ذلك سيحبب الإنسان بذاته، وبهذا تزداد فاعليته ومردوده، المردود الذي يرى الفيلسوف أن ثماره ستعود بالنفع على العام، وقد يتفق هوبز معه في هذا، بينما على الضفة الأخرى نجد هيغل وماركس وديدرو يأخذون بنظرية الحق الطبيعي، المؤسسة أساساً للمجتمع المدني، بما يحمل هذا الحق من تضمين (المساواة، الشعب، الأمة، حقوق الإنسان، حرية، حقوق طبيعية، دولة)، وبين لا أخلاقية اقتصاد السوق وليبرالية الاقتصاد على الأقل فيما نظرَّ له هيغل، تكون حرية العمل والملكية الشخصية، ويصبح جزءاً من المحافظة على الشخصي هو بحد ذاته حماية للحق الطبيعي حيث نشأة المجتمع المدني، بعاهلية الدولة ورعايتها، والتي تسعى إلى إبرام عقد اجتماعي خاضع للقانون ومُلَبٍّ له، بكل رضا وقناعة. ربما يمكن القول عن هذا العقد الاجتماعي بوصفه محركاً (دينامو) للحريات العامة مضمنة حقوق الإنسان والحرية والسياسة، إذا عرفنا أنَّ المجتمع المدني سابق للسياسي وللدولة، مثله مثل مترادفتي الحرية والدولة في علاقتهما ببعضهما بعضاً وفي إثارتهما الجدل.

والمجتمع العربي مدنياً، ومن تلك الزاوية، أي ثنائية سلطة ومنظمة أهلية، تبدو العلاقة حزينة ومتشحة بالسواد، فتشكيل منظمة أهلية يرتقي من جهة الحزم السلطوي تجاهها ما يقتضيه تشكيل خليةٍ معارضة راديكالية، تتبنى برنامجاً مشوّهاً ومخرّباً، وبدلا من النظر إلى هذه المؤسسةِ كرديفٍ للدولة ببرنامجها، الذي يتجاوز حالتها كمجموعة أفراد يتخذون من العمل الجماعي سمة لهم مع تعزيز القدرات الفردية وتقديرها باعتبار أن الإبداع يخصُّ الفرد ولا يكون من ندرته إلاَّ ضماناً للمجموع، والذين هم بدورهم ضمانة الدولة والمثل والقيم الناهضة بالمجتمع المدني، يتمُّ كل هذا تحتَ التباس واضحٍ من قراءة الرقيب في المنطقة العربية للمفهوم، بل والتباس يصل حدَّ الجهل به، فقد حدث أن مسؤولاً حزبياً في أحدِ الدول قالَ في معرض تعليله رفضه إنشاء فرع من جمعية أهلية بأنها ذات طابع ديني وهو ما يتنافى مع سياسة الدولة العلمانية بحسبه، واستشهدَ بالآيتين القرآنيتين"والعاديات صبحاً(1) فالموريات قذحا(2)". من سورة العاديات، لحمل الجمعية الاسم ذاته، ومن هنا تنبع إشكالية العلاقة الفظة بينَ السلطة التي ترى نفسها مهددة من كل ما يحيط بها ذلكَ لسوء في التدبير والمنهج والقانون، الذي تسنه على مقاسها بحيث يعطيها الحق المطلق ويمنع هذا الحق الطبيعي عن مستحقيه، ودائماً يأتي شرط المنع المخفف له والواهم للمستحقين بأن هذه الممارسات طارئة وليست أصيلة، وترتبط بحالة الدولة القلقة والمقلقلة لكثرة الأعباء و(المؤامرات) المهددة (الأمنَ والأمان). ويمكنُ عدُّ قانون الطوارئ في هذا الشأن والذي سرىَ مفعوله لمناسبة حرب أو انقلاب وبقيَ صالحاً لكل زمان ومكان وبعد زوال السبب والمسبب، وهو ما أطلقَ يدَ الاستبداد لتطولَ أي ملمحٍ مدني في إدارة الدولة بتعاضد بين الأهالي كمجتمع، والدولة كشريك موجه ومنافس في الحينِ نفسه.

سوريّاً، وعلى سبيل المثال، نشأت بعض الجمعيات والمؤسسات الأهلية برغم الحصار الأمني لها، وزادت عن الألف في ما قبل الثورة، لتأخذ رقماً كبيراً بلغ 5000 في أيامنا هذه، بقيَ السؤال الأهم من نشأة هذه المجمعّات، وهو سؤال مقلق ومميت أحياناً يرتبط مباشرة بالجهة الممولة وأهدافها من التمويل، كذلك ما مدى صبر هذا المجتمع المدني في إعالته لمؤسساته ورعايته لها، فيما لو انحسر التمويل واعتمدت على ذاتها من ناحية مبادرة الأفراد وابتكاراتهم لمشاريع استثمارية، وقدرة المشاريع نفسها على حماية توجهها والسير قُدماً، تتبنى المنظمة الأممية جزءاً كبيرا من تمويل المجتمع المدني، لغاية إشاعةِ مفهومه وقيمه المرتبطة بحقوق الإنسان، غير أنَّ هذا التمويل هو على مرمى الانتقاد أولاً من السلطة الحاكمة غير المتخلصة من عنجهيتها (الفيودالية)، ومن التجمعاتِ العاملة تحتَ المسمَّى نفسه والتي تختلف عن بعضها بالدعم المقدّم وجهة التمويل وطروحاتِ الممول.

يمكنُ القول خلاصة أنَّ المجتمع المدني بتجاوزه في أحدِ تعريفاته كونه منظمة أو جهة تعتمد الابتكار والإبداع وتنحو لتأسيس عمل وطريقة عمل مجتمعية، تؤسس لعلاقة قوامها الرضا والطيبة والوساطة بين الجمهور وبين الدولة فإنها تأخذ بعداً سياسياً يرتبط بنضالها الذي خاضتهُ عالمياً ونجحت فيه، وبالتالي ووفق هذا الكلام، ستبقى في مرمى (النيران الصديقة).


(سورية)

المساهمون