ثلاث سيمنارات تقارب قضايا وأسئلة متشعبة، أقامها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، خلال الشهر الجاري، حمل كل منها أسئلة ثقافية جديدة، آخرها كان تحت عنوان "مقاربات مفاهيمية حول فلسفة الدين"، وقبله أقيم سيمنار "الدراسات العربية والإسلامية في إيطاليا في القرن العشرين: قضايا واتجاهات وأعلام"، كما انعقد مطلع هذا الشهر "سرديات السجن في تونس ما قبل ثورة 2011 وما بعدها"، وقد ترأس السيمنارات الثلاث الباحث مراد دياني.
وكان سيمنار "مقاربات مفاهيمية حول فلسفة الدين"، الذي انعقد الأربعاء الماضي قد بدأ بمداخلة الأكاديمي كمال طيرشي، الباحث في المركز، والذي تطرق إلى الإرهاصات الأولى لدراسات الدين واللاهوت، بدءاً بالإغريق الأوائل كسقراط وأفلاطون وأرسطو، وهؤلاء كان تفلسفهم في الدين منضوياً في إطار قضايا الإلهيات المندرجة في قسم الحكمة النظرية.
تناول طيرشي أيضاَ متفلسفة الإسلام مثل الفارابي والكندي وغيرهما، الذين بحثوها من جهة علاقتها بمباحث الوحي والنبوات، وعرّج على فلاسفة العصور الوسطى المسيحية كالقديس توما الأكويني، والذين أقرّوا إمكانية دراسة القضايا الماورائية بآليات النظر والتفكير العقلي من دون الاعتماد على ما يقول الوحي الرباني.
في جانب آخر، قدم طيرشي قراءة في تعريف لفظ الدين في معاجم اللغة العربية، حيث تتجلّى العديد من التباينات والاختلافت في تحديد المعنى الدقيق له، ومروراً بالتعريف الاصطلاحي للفظ الدين في اللغات الأخرى (الإنكليزية والفرنسية والألمانية)، ليستقر بعد ذلك على تصور لاشولييه القائل إن كلمة "Religio" يبدو، على نحوٍ عام، أنها تعني في اللاتينية الإحساس المصحوب بالرهب والخوف وتأنيب ضمير، وبواجبٍ ما تجاه الآلهة.
كذلك، تحدث الباحث عن ظهور مصطلح "فلسفة الدين" في نهاية القرن الثامن عشر، والتي تروم بحث وتحليل المقدسات والمعتقدات والظواهر الدينية وتفسيرها، ولا تتوخّى الدفاع عن هذه المعتقدات وتسويغها، مثلما يفعل اللاهوتيون وعلماء الكلام، إنما تهتم بشرح وبيان بواعث الدين ومنابعه في الروح والنفس والعقل، ونشأة المقدس وتجلياته في حياة الإنسان وصيرورته وتحولاته في المجتمعات الإنسانية.
كما أكد طيرشي أنه لا علاقة لفلسفة الدين بإيمان فيلسوف الدين والباحث والدارس في هذا الحقل أو بعدم إيمانه، كما هو حال المتكلم في علم الكلام واللاهوتي في علم اللاهوت؛ ذلك أنّ الباحث في فلسفة الدين يُفترض أن يكون محايداً، يتحرّى الموضوعية، وما يقود إليه العقل والأدلة في بحثه؛ فهو لا يعنيه تكريس المعتقدات الدينية مثلما لا يعنيه نفيها.
وفي سيمنار سابق، عقد في 22 من الشهر الجاري، استضاف المركز العربي الأكاديمية التونسية صوفية حنازلة، الباحثة المساعدة في المركز العربي، والتي قدمت مداخلةً بعنوان "السجن المتخيل وتشكيل الذاكرة الجمعية: سرديات السجن في تونس ما قبل ثورة 2011 وما بعدها"، وهي جزء من مشروع الدكتوراه الذي هي بصدد إعداده.
استهلت الباحثة حنازلة عرضها بمحاولة تلمّس الغايات والأسباب التي ساهمت في اختيار هذه الإشكالية البحثية؛ إذ تتعدد الأسباب بين شخصية وسياسية وعلمية معرفية. ويطرح مشروعها موضوع السجون التونسية منذ فترة الاستقلال باعتبارها أيقونات لتاريخ مخصوص، فأسماء السجون ومواقعها والحكايات حولها وغيرها أصبحت جزءاً من كيفية تأريخ الشعب التونسي لجماعيته وعلاقته المخصوصة بالسلطة السياسية.
عرّجت الباحثة على النظر في كيفيات اشتغال سرديات السجن وخطاباته في الفضاء التونسي ومختلف علاقات القوى والصراعت التي تكشفها هذه السرديات والخطابات. وتحيل الباحثة على استعمال الدولة التونسية لخطابٍ معلن مخصوص حول السجن باعتباره مؤسسة إصلاحية وتقويمية من جهة، ولخطابٍ آخر مضمّن هو استعماله لغاية ترهيب كل من يجرؤ على معارضتها. وقد كانت هذه الثنائية الخطابية جزءاً مشكلاً في خطاب الدولة التونسية الحديثة حول السجن.
رصدت حنازلة السرديات الشفوية والكتابات والمنتجات البصرية التونسية التي يمكن من خلالها فهم تصورات التونسيين حول السجن، وترى الباحثة أنها في جزء كبير منها سرديات مناقضة للسرديات الرسمية.
ومن خلال هذه السرديات المناقضة، تحاول الباحثة أن ترصد أشكال الذاكرة الجماعية المنتَجة عبر هذه القنوات التخييلية حول السجن. كما طرحت الباحثة للنقاش على المستوى النظري إشكاليات الذاكرة الجمعية ومختلف المحاولات التعريفية الموجودة في الأدبيات الأكاديمية، في محاولة لنقدها وتقديم مداخلة نظرية جديدة حولها.
تناولت المحاضِرة أيضاً سؤال الجسد باعتباره الحيز المركزي للصراع والضبط داخل السجن. ومن ثمّ، تحاول الباحثة المرور من البحث في الجسد باعتباره فضاء للعنف والتعذيب، إلى الجسد بما هو فضاء لتكثيف الصراع، وتنظر إلى الفضاء السجني في تونس، لا باعتباره هدفاً في ذاته، ولكن بالأساس للدخول من خلاله إلى تقسيم الفضاء في تونس والتركيبة الجغرافية لعلاقات القوى ومحاولة تلمس التغيرات الحاصلة في هذه التركيبة زمنياً وبنيوياً.
كان "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، قد أقام أيضاً سيمنار مطلع أيار/ مايو الجاري، موضوعه "الدراسات العربية والإسلامية في إيطاليا في القرن العشرين: قضايا واتجاهات وأعلام"، حاضر فيه الأكاديمي عقيل المرعي، الأستاذ المشارك في اللغة العربية وآدابها وأستاذ تاريخ الثقافة الإسلامية في جامعة سيانا بإيطاليا، ورئيس وحدة اللغات الشرقية فيها، والباحث الزائر حالياً بالمركز.
سلّط المرعي الضوء على جذور الاهتمام الإيطالي واللاتيني بالدراسات العربية والدراسات الإسلامية، مبيناً أنها تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر ميلادي وبداية القرن السادس عشر. وأشار الباحث في هذا الصدد إلى أنّ إيطاليا شهدت نشر أول نص مطبوع بالعربية "Hypnerotomachia Polìphili" في عام 1499، ونشر أول كتاب مطبوع بالعربية "كتاب صلاة السواعي" في عام 1514، ونشر أول ترجمة للقرآن الكريم إلى التوسكانية في عام 1547.
اعتبر الباحث أن القرن العشرين هو العصر الذهبي للاستعراب الإيطالي؛ وذلك لأسباب تاريخية وثقافية وسياسية متعددة، من أهمها الدعم الذي أولته الفاشية لدراسة لغات المستعمرات وثقافاتها. وركز في عرضه على الفترة الممتدة بين كارلو ألفونسو نالينو وفرانتشيسكو غابريلي؛ إذ نشر نالينو أول دراسة له عن القرآن الكريم في عام 1896.
عكف الباحث في عرضه على بيان توزّع مجالات الاستشراق الإيطالي من أربع نواح؛ الأول الدراسات الفيلولوجية والأدبية، والدراسات التاريخية، والدراسات الإسلامية (الفقه والتصوّف)، والدراسات الفلسفية، وتناول في كل محور نماذج لباحثين ودراسات وكتب شكلّت الأساس والمرجعية في مجالها.
أخيراً، أشار الباحث إلى أنّ الاستعراب الإيطالي تأثر بالمتغيرات السياسية في بلدان الشرق الأوسط، وكان للقضية الفلسطينية وللثورة الإسلامية في إيران تأثير واضح فيه، في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وإن كان هذا التأثير قد بدأ يخفت في السنوات الأخيرة.