"هو احنا مش هنروح نصيّف يا سي عبده"، تستند الزوجة الثلاثينية على كتف زوجها بعد وجبة غداء دسمة، أعدتها خصيصًا ليوم المناقشة، تعرف هي أن طبقًا من المحشي والفراخ المحمّرة بالزبدة البلدي، كفيلان بأن يحسما أي نقاش مع زوجها لصالحها، أودعت كل خبرتها المطبخية في صحن الباذنجان المحشوّ، وأسكنت صوتها رقّة وحناناً، لا يسمعهما زوجها إلا حين تهلّ عليه أهلة المواسم، وها هو حرّ الصيف ورطوبته، ينذرانها بأن جارتها زينب وابنة خالتها نهى، قد سبقاها إلى شاطئ البحر، وهي لم تزل تجلس فوق سطح منزلها تستجدي نسمة باردة "العيال عاوزه تفرح وتبلبط يا سي عبده، والنبي ما تزعّلهم".
أزمات مالية متتالية، مرّ بها سي عبده، كسائر عموم المصريين في عامهم الأخير. لم تعد تُفلح أموال "الجمعية" التى كانا يقتطعانها شهريًا من راتبه "للتحويش" للمصيف. ألفا جنيه لا تكفي لتحقيق حلم أطفاله في قضاء مصيف سعيد، رخيص، كما يحلمون هم، ويأمل هو. استجاب عبده لنداء النوم وترك زوجته من دون أن يعطيها جوابا قاطعًا "قولي يا رب". لم تنم الزوجة، فقد سيطرت عليها الأحلام، وبدأت التقليب في ذكرياتها مع هواء المصايف.
"رحلة العائلة المقدسة"، هكذا كانت تطلق عليها صفاء، حين كانت ضفائرها لم تزل مجدولة لأسفل ظهرها، شقّة مكونة من غرفتين وصالة في مصيف مصنع الحديد والصلب الذي يعمل فيه والدها. رغم صغر الشقة المصيفية في رأس البرّ، إلا أنها كانت تجمع خالاتها وأخوالها وأحيانًا عمّها وزوجته. لم تزل تتذكّر آخر رحلة مع عائلتها قضتها في عام 2005، كان المبلغ الذي دفعه والدها نظير إيجار شقة المصيف 250 جنيهًا "أيّام مبارك اللي كانت مليانة عزّ وكان بيسرقنا". خمسة عشر عامًا، لم تتغيّر شقة رأس البرّ، ظلت هي المصيف العائلي الأوّل والأخير لعائلة صفاء، لم تزل كل ذكرياتها عالقة هناك، في البلكونة الدائرية، التى كانت تطل على حديقة بها منضدة للبينغ بونغ، كراسي خشبية تجمع العائلة الكبيرة في سهرة حول الكوتشينة والدمينو والشطرنج، ومعهم أطباق الترمس واللب والسوداني، وأكواب الشاي والحلويات التي تعدّها الأم والخالات. تحسب صفاء كيف مرّت تلك الأيّام، وأنها رغم رحلاتها السنوية الآن إلى مصيفها السنوي الجديد في قرى الساحل الشمالي، إلا أن ثمة شيئا ما يغيب.
منذ أن تزوّجت صفاء، لم تعد الرحلات العائلية تلائم وضعها الجديد، فزوجها لا يفضّل تلك التجمّعات، ولا يقبل أن تتشارك زوجته شقّة واحدة مع أقاربها، حتى لو كانت برفقة والديها، تقبّلت الزوجة الوضع الجديد على مضض، لكن الأمر لم يتوقّف عند حدود مصيف رأس البرّ، لكنها قضت سنوات طويلة من عمر زواجها، وهي لم تخرج خارج حدود القاهرة، كان الحمل هو العائق الأوّل، ثم الانشغال بالطفل الأوّل، ثم رعاية شؤون الطفلة الثانية، ثم ضغوط العمل، وتكدير الأيام. ثم عاودها شوقها لنسمة صيفية، وموجة بحر، وأمسية مقمرة تستمرّ حتى شروق الشمس، فأعدت حمامًا محشوًا وفخدة مشوية ونجحت في إقناع زوجها بالسفر.
لم تعد رأس البرّ وجمصة تناسبان عائلة صفاء الجديدة، ولم تعد الـ250 جنيهًا قادرة على منحها أسبوعًا مصيفيًا كما تتمناه. في سنة 2015 اختارت صفاء، قرية سياحية في الساحل الشمالي وسافرت مع أسرتها الصغيرة، بدون عائلتها الكبيرة للمرّة الأولى، مثلما كانت تفعل أمّها وخالاتها. أعدت صواني الكيك، وجهزت الدجاج المُتبّل، وأصابع الكفتة والبانيه، أحضرت المايوهات للأطفال، وملابس جديدة تليق بالبحر لزوجها المتأنّق، ولم تنس نفسها فاستجابت لاقتراحات صديقاتها واشترت البوركيني لتستمتع بالمياه على جسدها المحتجب.
عامان متتاليان سافرت صفاء إلى مصيفها الجديد، شمس ساطعة ونسمة عليلة، وهواء منعش، وملل. لم يبهرها الساحل الشمالي رغم جماله، ولم تسحرها زرقة مياهه، ونعومة رماله، لم تروِ حفلات الشاطئ في مارينا وهاسيندا ظمأها للسهرات المصيفية على لسان رأس البرّ. لم تستسغ الآيس كريم روول، وتذكّرت الفريسكا التي كانت تتهافت عليها مع عائلتها، لم تغنها حفلات منير وعمرو دياب، عن حفلات حكيم ومسابقات ملكة جمال الشاطئ التي شاركت فيها ذات مرّة. لم يعوّضها الساحل الشمالي عما تركته يومًا ما على رصيف العمارة رقم 15 بالشارع الغربي في رأس البرّ.
في عام 2017، صار المصيف رفاهية، بعد أن ارتفعت الأسعار بعد قرارات التعويم، لم تعد الجنيهات التي تستقطعها صفاء على مدار شهور من مصروف البيت، كافية لقضاء يومين بالساحل. وبرغم محاولاتها إقناع زوجها بطبق من المحشي والدجاج المشوي وبعض من الإغواء الذي تستعين به في المواقف الصعبة، إلا أنها تعلم أن طلبها هذه المرّة صار ضربًا من المستحيل، حتى هي فقدت شغفها، ومحاولات اصطناع الرغبة التي تبديها، لم تنجح في إقناع زوجها بأنها بالفعل تريد السفر. لا يؤمن أطفالها بأهميّة الذكريات، ولا يقيمون وزنًا للحظات الخاصّة التي تجمعهم، وبعد التعويم لم تعد تملك القدرة على شراء ملل باهظ الثمن.