لم يكن هذا متاحاً للمرزوقي لسببين رئيسيّين، أولهما ذاتي والثاني موضوعي. فالمرزوقي في نظر المقرّبين منه، نذر حياته منذ سنوات للعمل السياسي، ما اضطره إلى إهمال اختصاصه العلمي. غير أن السبب الموضوعي يبدو أقوى، عبر القرار السريع، الذي اتخذه بالاعلان عن مبادرته الجديدة، بعد يومين فقط من انتخاب رئيس جديد.
فـ"الثمرة" ناضجة والطريق إليها يسير، وقاصدُها مأخوذ بقوة دفع الحملة الانتخابية الاستثنائية، التي جعلته يخالف كل أنواع الانتظار، ويفاجئ أغلب توقعات الرأي العام، بكسبه حوالي 45 في المائة من أصوات الناخبين. أي أن حوالي 1.4 مليون شخص صوّتوا له، فيُصبح بالتالي إدارة ظهره لهم، بعد الانتهاء من الانتخابات، "غباءً سياسياً عارماً" وتضييعاً لفرصة تاريخية نادرة، تُفتح أمامه، لخلق ديناميكية سياسية جديدة.
وفي مقدور المرزوقي تحويل تلك الديناميكية إلى مؤسسة سياسية ما، خصوصاً أن المساحة في حزبه الأصلي، "المؤتمر من أجل الجمهورية"، باتت ضيّقة جداً عليه، بالنظر إلى نتائجه المتواضعة في التشريعية، والعودة إليه تُعتبر ضرباً من ضروب الانتحار السياسي، إذا ما استثنينا معجزة سياسية، تقضي ببث روح جديدة في الحزب، يقبل بها المزاج السياسي العام في تونس.
وأثارت المبادرة الجديدة التساؤلات حولها، وخلقت إرباكاً واضحاً تحديداً لدى القوى والتيارات السياسية، التي "أقرضته أصواتها" بسذاجة سياسية قياسية. غير أن المرزوقي نجح في احتوائها، بعيداً عن الحسابات التي تقوم على منطق الربح والخسارة. وشكّل من أجلها "مشروعاً ثورياً" جديداً، استهوى في الظاهر أعداداً كبيرة منها، وسبّب لها ارتباكاً، يقول البعض إنه قد يصل إلى انقسامات داخل هذه القوى، كما أعلن القيادي في حركة "النهضة"، عبد الفتاح مورو، الذي كشف أن "حركة المرزوقي قد تُحدث شرخاً في النهضة مثلاً".
ويعرف المرزوقي أنه لن يحتفظ بكل الأصوات التي صوّتت له منذ أيام، وأن بعضها سيعود إلى "بيته الأصلي"، ولكنه يؤمن أيضاً بأن عدداً هاماً منها، سيبقى في دائرة الخطاب الذي يدعو إليه، ما قد يمكّنه من خلق قوة سياسية جديدة يريد لها أن تكون على رأس المعارضة التونسية بعد تشكُّل مشهدها الجديد. ويفترض هذا الوضع الانتظار قليلاً، لمعرفة مدى واقعية هذا الطرح وغربلة الأحزاب التي سيسقط منها مجال المناورة الحكومي، أصواتاً كثيرة، يبدو المرزوقي جاهزاً ليتلقفها أكثر من غيره.
ويستند المرزوقي فيما يمكن اعتباره الورقة التأسيسية لحزبه الجديد، على رغم معارضة مدير حملته الانتخابية عدنان منصر للمصطلح، إلى ما سمّاه "سرعة التنظيم التلقائي، لأشخاص من مختلف المشارب السياسية والعقائدية، جمعتهم إرادة واحدة: الدفاع عن مكاسب الثورة وعن المشروع الديمقراطي والتصدّي لعودة المنظومة القديمة".
ولكنه في الوقت عينه يرفض تصنيف قواها سياسياً أو إيديولوجياً، ويفضّل اعتبارها "طاقة" و"حراكاً"، وله خصائص جديدة جاءت "من خارج، ومن فوق الأطر التقليدية، ومتجاوزاً التقسيمات السياسية والعقائدية الموجودة على الساحة".
ويفصّل المرزوقي في شكل قريب من الدعوة الموجهة إلى الجميع بالانضمام إليه، عندما يتحدث في ورقته عن "اليساري الذي يضع القضية الاجتماعية فوق كل الأحقاد الإيديولوجية، ويرفض الاصطفاف وراء رأس المال المشبوه، انطلاقاً من هذه الأحقاد". كما يظهر ذلك أثناء حديثه عن "الحداثي الذي يضع كرامة المواطنين والحريات الفردية والاجتماعية، فوق المفهوم القمعي والمتخلّف لهيبة الدولة أو المفهوم السطحي للحداثة، بما هي لباس وتقاليد وكره للهوية العربية الإسلامية".
كما توجّه إلى القومي بوصفه "القومي الذي يضع الوفاء لحقوق الإنسان والشعوب والأمة فوق الوفاء لأنظمة فاسدة استبدادية، وإن ادّعت القومية والممانعة". كما لم ينسَ الإسلامي القول إن "الاسلامي يعتبر أنه يجب القطع مع المنظومة القديمة لا محاولة ترويضها".
ويصرّ المرزوقي على أن "هذا الحراك وُلد تلقائياً، ولا ينتظر إذناً مني أو من سواي، والظاهرة في كل الحالات تتجاوز شخصي بكثير، ومن ثم فأنا الذي في خدمتها لتحقيق مطامحها، وليست هي التي في خدمتي لتحقيق مطامحي، علماً أنه لم يعد لي أي مطامح سياسية سوى رؤية توسع رقعة شعب المواطنين وتحقيق آماله في الحرية والتنمية".
غير أن اللافت هو تأكيده أنه لا يخلق "حركة سياسية جديدة وإنما أواكب ظاهرة فاجأتني بعمقها وشمولها، وأتشرّف بأنني عنصر فاعل فيها. ما يدعوني إلى التفكير المعمق حول أطر جديدة تكون بالغة المرونة والترابط، تجمع بين السياسي والمجتمعي والثقافي والفني، لتكون الثورة أيضاً ثورة في العمق، لا على السطح، وتخلّص شعبنا شيئاً فشيئاً من التقاليد والعادات التي زرعتها فينا عقود من الاستبداد".
وبمجرّد انتهاء لقاء المرزوقي بأنصاره، سارع مدير حملته عدنان منصر، إلى التنويه بأن "حركة شعب المواطنين التي دعا إليها المرزوقي، يُقصد منها حراك شعبي، لتأطير الطاقة المتواجدة في الشارع، بعد نتائج الانتخابات ووضعها في سياق سلمي ومدني". لكنه شدّد على أنه "لم يُعلن بعد عن تأسيس حزب جديد".
ويبقى التساؤل مطروحاً حول الأفق السياسي الواقعي لهذه المبادرة، وإمكانية تشكّلها سياسياً وتنظيمياً، فالأصوات تذهب فطرياً في اتجاه المؤسسات، والمبادرات المستقلة في تونس لم تُثبّت وجودها بعد.
يُذكر أن دراسة التصويت في الانتخابات الرئاسية، أظهرت أن عدداً من الذين صوّتوا لـ"الجبهة الشعبية" ولـ"نداء تونس" في الانتخابات التشريعية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، صوّتوا للمرزوقي في الانتخابات الرئاسية. ويبقى السؤال الأكبر في دائرة "حركة النهضة"، التي شكّلت 70 في المائة من مجموع أصوات المرزوقي، وفيها غاضبون كُثر لا يلتقون مع "ضرورات القيادة"، وأحدهم حمادي الجبالي، الذي أعلن أنه غير معني بمبادرة المرزوقي.