19 أكتوبر 2019
"الناتو" نتاج هوية وقيم مشتركة
ليس حلف الشمال الأطلسي (الناتو) مجرد حلفٍ عسكريٍّ، يقوم على قراءةٍ، ومدركاتٍ مشتركة للتهديد، وعلى مبدأ الأمن الجماعي، بل، هو أيضاً، مجموعة ديومقراطية ليبرالية، مؤسسة على مجموعة من القيم (الديموقراطية، الحرية الفردية...). وعليه، تقوم هويته على هاتين الدعامتين، كما يتضح ذلك من ديباجة ميثاقه التأسيسي، والتي تؤكد على حزم الدول الأعضاء في الحفاظ على حرية شعوبها، وعلى ميراثها المشترك وحضارتها، المبنية على مبادئ الديموقراطية والحريات الفردية وسيادة القانون؛ وعلى اهتمامها بتشجيع الاستقرار في منطقة الشمال الأطلسي، وعزمها على توحيد جهودها، من أجل دفاعها الجماعي، والحفاظ على السلام والأمن.
تعززت الدعامة القيمية - الهوياتية (نسبة إلى الهوية) مع مرور الزمن، خصوصاً مع تحول كل الدول الأعضاء إلى ديموقراطيات (بعد دمقطرة دكتاتورياته مثل البرتغال، إسبانيا واليونان، فضلاً عن تركيا). وقد فتح توازن الرعب النووي، إبان الحرب الباردة، المجال للصراع السياسي والإيديولوجي، حيث أصبح الشق العسكري لـ"الناتو" مسألةً محسومةً مسبقاً، لأنه، في حالة اعتداء، ستكون المرجعية المادة الخامسة من ميثاقه (مبدأ الأمن الجماعي). وبالتالي، الدعامة القيمية هي التي كانت مجال التنافس، موفرة هامش المناورة، خصوصاً أن الصراع كان أيديولوجياً، وبالتالي، فتعزيز القيم الديموقراطية الليبرالية، في حد ذاته، تعزيز للحلف الأطلسي. وهذا ما ساعده على صوغ هوية أعضائه وتعزيزها. واتضح، تدريجياً، أن هوية "الناتو" تقوم أساساً على الديموقراطية، وهذا ما سيتأكد مع توسيعه شرقاً، منذ نهاية الحرب الباردة.
ومن ثم، "الناتو" نتاج هوية غربية (أورو-أطلسية). ويعد وجود الوعي بهذه الهوية، ووجود مجموعة (أمنية) أورو- أطلسية، تقوم على قيم ومصلحة مشتركة بين ضفتي الأطلسي - لا تتأثر بالعائق الجغرافي، أو اللغوي - عاملاً حاسماً في صوغ الهوية الأورو - أطلسية وتشكيلها، وهي التي على أساسها قام "الناتو". أما العامل الحاسم الآخر، فهو وجود العدو السوفياتي، لأن الهوية تتداخل في تشكيلها الأنا والآخر، وليست شيئاً محليَّ الصنع حصراً، فنظرة الآخر تساهم في صقل نظرة الآن للذات والغير، كما تقول بذلك المقاربة البنائية في العلاقات الدولية. ومن هنا، فالحلف الأطلسي نشأ على أساس أرضيةٍ هوياتيةٍ واضحة المعالم، سيساهم في تعزيزها وصقلها: فهو نتاج هوية محددة، لكنه أصبح، مع مرور الزمن، من روافد صناعة هوية غربية جامعةٍ، تنحو إلى أن تكون مانعةً، بعدما كاد الحلف الأطلسي يبلغ الإشباع، من حيث التوسيع، والتوجه نحو استقرار نهائيٍّ لحدوده.
وربما يكمن نجاح "الناتو" في أنه شدد على القيم المشتركة، لأنه لا جدال فيها بين الدول الأعضاء، بينما المصالح قد تختلف. لذا، كانت هذه القيم المشتركة المحرك الأساسي للحلف ومبرر وجوده وبقائه (لم يختف بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي). فهو يؤثر في سلوك دوله الأعضاء، من حيث تذكيرها بعمق هذه القيم المشتركة التي تُستدعى، كلما اقتضت ذلك ضرورة الخلافات، للحد منها ومن تفاعلاتها، ومن حيث تعميق وعيها بالانتماء إلى مجموعة أورو- أطلسية، ذات هوية واحدة. من هنا، صاغ "الناتو" أو ساهم في صوغ الذات الأطلسية وصقلها، على أساس قيم مشتركة بين دولها، مؤثراً في علاقتها البينية، وفي علاقتها مع الآخر. وتمكن من ضم خصومه في حلف وارسو، أي دول أوروبا الشرقية، حيث صاغ هويتها، كونه من أدوات دمقرطتها. ذلك أن الانضمام للحلف الأطلسي كان مشروطاً، أيضاً، ببناء نظام ديومقراطي حقيقي، خصوصاً أن من بين المبادئ الأساسية التي نقلها الحلف إلى دول أوروبا الشرقية، المرشحة للانضمام، مبدأ المراقبة الديموقراطية للقوات المسلحة. وعليه، كان قبول عضويتها في "الناتو" على أساس معايير ديموقراطية، من دون مراعاة ما يمكن أن تقدمه للأمن الأطلسي. هكذا، تراجعت المعايير العسكرية، فيما تقدمت المعايير القيمية. ومن هنا، جاءت الهندسة الأطلسية في صوغ الهوية وصناعتها. فالناتو على البعد القيمي أساساً. والجانب القيمي هو الذي يحدد السلوك العسكري وليس العكس. وهذا طبعاً يتوافق والمقاربة البنائية القائلة إن الهوية هي التي تحدد المصالح وتصقلها، وليس العكس.
نافلة القول أن الحلف الأطلسي نتاج هوية أورو- أطلسية، لكنه ساهم في صوغها وتعزيزها. ولعب، بعد نهاية الحرب الباردة، دوراً في صناعة هوية دول أوروبا الشرقية، لينجح بذلك في معركتي عبور استراتيجيتين. معركة العبور الهوياتية الأولى، وهي إبقاؤه على شعرة معاوية بين ضفتي الأطلسي، على الرغم من الزوابع السياسية، ومساهمته في إيجاد قناعة لدى الدول الأعضاء بأن لا صوت يعلو فوق صوت القيم المشتركة التي تحدد، بدورها، في نهاية المطاف مصالح مشتركة. أما معركة العبور الثانية، فكان "الناتو" صانعها الوحيد، لأنه صنيع الهوية الغربية لدول أوروبا الشرقية، بعبوره من غرب القارة إلى شرقها، ليختفي هذا التقسيم بمد المظلة الأورو- أطلسية. فكان أن أصبحت المجموعة الأورو- أطلسية الجماعة الأمنية الأكثر اندماجاً إستراتيجياً في التاريخ. لذا، ترى الحلف الأطلسي يؤسس، اليوم، خطابه بشأن الأزمة الأوكرانية على البعد القيمي أساساً.
تعززت الدعامة القيمية - الهوياتية (نسبة إلى الهوية) مع مرور الزمن، خصوصاً مع تحول كل الدول الأعضاء إلى ديموقراطيات (بعد دمقطرة دكتاتورياته مثل البرتغال، إسبانيا واليونان، فضلاً عن تركيا). وقد فتح توازن الرعب النووي، إبان الحرب الباردة، المجال للصراع السياسي والإيديولوجي، حيث أصبح الشق العسكري لـ"الناتو" مسألةً محسومةً مسبقاً، لأنه، في حالة اعتداء، ستكون المرجعية المادة الخامسة من ميثاقه (مبدأ الأمن الجماعي). وبالتالي، الدعامة القيمية هي التي كانت مجال التنافس، موفرة هامش المناورة، خصوصاً أن الصراع كان أيديولوجياً، وبالتالي، فتعزيز القيم الديموقراطية الليبرالية، في حد ذاته، تعزيز للحلف الأطلسي. وهذا ما ساعده على صوغ هوية أعضائه وتعزيزها. واتضح، تدريجياً، أن هوية "الناتو" تقوم أساساً على الديموقراطية، وهذا ما سيتأكد مع توسيعه شرقاً، منذ نهاية الحرب الباردة.
ومن ثم، "الناتو" نتاج هوية غربية (أورو-أطلسية). ويعد وجود الوعي بهذه الهوية، ووجود مجموعة (أمنية) أورو- أطلسية، تقوم على قيم ومصلحة مشتركة بين ضفتي الأطلسي - لا تتأثر بالعائق الجغرافي، أو اللغوي - عاملاً حاسماً في صوغ الهوية الأورو - أطلسية وتشكيلها، وهي التي على أساسها قام "الناتو". أما العامل الحاسم الآخر، فهو وجود العدو السوفياتي، لأن الهوية تتداخل في تشكيلها الأنا والآخر، وليست شيئاً محليَّ الصنع حصراً، فنظرة الآخر تساهم في صقل نظرة الآن للذات والغير، كما تقول بذلك المقاربة البنائية في العلاقات الدولية. ومن هنا، فالحلف الأطلسي نشأ على أساس أرضيةٍ هوياتيةٍ واضحة المعالم، سيساهم في تعزيزها وصقلها: فهو نتاج هوية محددة، لكنه أصبح، مع مرور الزمن، من روافد صناعة هوية غربية جامعةٍ، تنحو إلى أن تكون مانعةً، بعدما كاد الحلف الأطلسي يبلغ الإشباع، من حيث التوسيع، والتوجه نحو استقرار نهائيٍّ لحدوده.
وربما يكمن نجاح "الناتو" في أنه شدد على القيم المشتركة، لأنه لا جدال فيها بين الدول الأعضاء، بينما المصالح قد تختلف. لذا، كانت هذه القيم المشتركة المحرك الأساسي للحلف ومبرر وجوده وبقائه (لم يختف بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي). فهو يؤثر في سلوك دوله الأعضاء، من حيث تذكيرها بعمق هذه القيم المشتركة التي تُستدعى، كلما اقتضت ذلك ضرورة الخلافات، للحد منها ومن تفاعلاتها، ومن حيث تعميق وعيها بالانتماء إلى مجموعة أورو- أطلسية، ذات هوية واحدة. من هنا، صاغ "الناتو" أو ساهم في صوغ الذات الأطلسية وصقلها، على أساس قيم مشتركة بين دولها، مؤثراً في علاقتها البينية، وفي علاقتها مع الآخر. وتمكن من ضم خصومه في حلف وارسو، أي دول أوروبا الشرقية، حيث صاغ هويتها، كونه من أدوات دمقرطتها. ذلك أن الانضمام للحلف الأطلسي كان مشروطاً، أيضاً، ببناء نظام ديومقراطي حقيقي، خصوصاً أن من بين المبادئ الأساسية التي نقلها الحلف إلى دول أوروبا الشرقية، المرشحة للانضمام، مبدأ المراقبة الديموقراطية للقوات المسلحة. وعليه، كان قبول عضويتها في "الناتو" على أساس معايير ديموقراطية، من دون مراعاة ما يمكن أن تقدمه للأمن الأطلسي. هكذا، تراجعت المعايير العسكرية، فيما تقدمت المعايير القيمية. ومن هنا، جاءت الهندسة الأطلسية في صوغ الهوية وصناعتها. فالناتو على البعد القيمي أساساً. والجانب القيمي هو الذي يحدد السلوك العسكري وليس العكس. وهذا طبعاً يتوافق والمقاربة البنائية القائلة إن الهوية هي التي تحدد المصالح وتصقلها، وليس العكس.
نافلة القول أن الحلف الأطلسي نتاج هوية أورو- أطلسية، لكنه ساهم في صوغها وتعزيزها. ولعب، بعد نهاية الحرب الباردة، دوراً في صناعة هوية دول أوروبا الشرقية، لينجح بذلك في معركتي عبور استراتيجيتين. معركة العبور الهوياتية الأولى، وهي إبقاؤه على شعرة معاوية بين ضفتي الأطلسي، على الرغم من الزوابع السياسية، ومساهمته في إيجاد قناعة لدى الدول الأعضاء بأن لا صوت يعلو فوق صوت القيم المشتركة التي تحدد، بدورها، في نهاية المطاف مصالح مشتركة. أما معركة العبور الثانية، فكان "الناتو" صانعها الوحيد، لأنه صنيع الهوية الغربية لدول أوروبا الشرقية، بعبوره من غرب القارة إلى شرقها، ليختفي هذا التقسيم بمد المظلة الأورو- أطلسية. فكان أن أصبحت المجموعة الأورو- أطلسية الجماعة الأمنية الأكثر اندماجاً إستراتيجياً في التاريخ. لذا، ترى الحلف الأطلسي يؤسس، اليوم، خطابه بشأن الأزمة الأوكرانية على البعد القيمي أساساً.