لا تزال الكتابة البحثية حول الموسيقى فقيرة في الثقافة العربية، فلا توجد سوى أعمال متفرّقة تناولت هذا الفن بأدوات فكرية وتاريخية متينة، أبرزها كتابات فؤاد زكريا، وفوزي كريم، وعلي الشوك، وصالح المهدي وقلة غيرهم. قد تكون الأبحاث الأكاديمية رافداً لتنشيط الكتابة في هذا المجال، وهو ما نجد أثره في تونس مع صدور مجموعة من الدراسات في الأعوام القليلة الماضية، مثل "دعوة إلى الموسيقولوجيا" لسمير بشة، و"تجربة النقد الموسيقي في تونس" لعائشة القلالي، و"حفريات في ذاكرة الموسيقى العسكرية" لأنيس المؤدّب، وترجمة أجزاء من موسوعة "الموسيقى العربية" للبارون ديرلانجيه.
تصدر هذه الأعمال منذ 2017 في طبعات مشتركة بين "مركز الموسيقى العربية والمتوسطية - النجمة الزهراء" و"منشورات سوتيميديا". وضمن الإطار نفسه، صدر أخيراً كتاب "تحوّلات العود: من الأرغانولوجيا إلى الفضاء التأليفي" (باللغة الفرنسية) للباحث وعازف العود حمدي مخلوف، بتقديم الباحث الفرنسي جون مارك شوفال.
ليست آلة العود مجرّد تركة تتوارثها الأجيال، بل هي فضاء تحوّلات
يرسم العمل تاريخ آلة تمثّل اليوم أحد أبرز عناصر هوية الموسيقى العربية، لكنها ليست مجرّد تركة تتوارثها الأجيال، بل هي فضاء لتحوّلات ومخاضات أوصلتها إلى الشكل الحالي، وإلى طبقات الأصوات التي تؤدّيها. في هذا التاريخ الطويل، يعود مخلوف إلى مصادر نصّية وأثرية موغلة في القدم، ليتثبّت من تحوّلات على مستوى مرفولوجية الآلة (الشكل والمقاسات)، ومن أبرز المؤلفين الذين اعتمد عليهم: الكندي والفارابي وابن سينا وصفي الدين الأرموي.
يدرس الباحث هذه التحوّلات عبر ستّ خصائص مفصلية في صناعة الآلة، هي: زند العود، وحق الاستدارة في الصندوق المصوّت في أسفل الآلة، وزاوية انحناء الصندوق المصوّت على مستوى الزند، وفرس العود، والجسور تحت الوجه، والأوتار. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخصائص تتغيّر على مستوى المقاس والشكل من صانع إلى آخر حسب بعض الإعدادات الفنية.
هذه القراءة التاريخية - المورفولوجية قادت المؤلف إلى تساؤلات عن الممارسة الموسيقية على هذه الآلة اليوم، أي كيف تنعكس هذه التحوّلات البنيوية على مستوى آخر يُسمّيه "الفضاء التأليفي"، وهو نتاج تفاعل ثلاثة عناصر: الفضاء السمعي القائم على الذاكرة السمعية للمؤلف، والفضاء البنيوي للعمل الفني وتركيبه الموسيقي، والفضاء الدلالي الذي يضمّ العناصر المنبثقة من خارج الموسيقى (دلالات التركيب اللحني ومقاصد التأليف).
لتطبيق هذه المقاربات النظرية، حلّل مخلوف مجموعة من التجارب التي تخصّصت في آلة العود مثل الأخوين جميل ومنير بشير من العراق، ومن الأجيال الأحدث نصير شمة من العراق أيضاً، و"ثلاثي جبران" من فلسطين، وظافر يوسف من تونس. يدرس العمل هنا بالخصوص تفاعل هؤلاء العازفين والمؤلفين مع تحوّلات الآلة ومقتضيات الذوق المعاصر، ولعلّ هذا التفاعل هو ما يجعل من تاريخ العود حيّاً ومتواصلاً.