مُنذ أن وُجدت السوق، وهي ترى المصيبة فرصةً قبل أن تحلّ مصيبة. اليوم، في زمن سوق السوشال ميديا، باتت أنا المستهلك ترى في المصيبة فرصةً لاستعراض الأنا وجني اللايكات، هذه المرة تحت شعار "خلّيك بالبيت"، وضمن إطار إجراءات الحجر والعزل والإقفال، التي أعقبت تفشّي الفيروس العتيد، الأشهر والأخطر، مالئ الدنيا وشاغل الناس.
على ذكر الناس، من قال للناس إن الناس تودّ رؤية الناس في سراويل النوم على وثير الأرائك؟ من طلب مشاهدة موقد النار العصري، يُزيّنُ غرفة الجلوس؟ من سأل عن حجم المكتبة، عن عدد الكتب وعناوينها، عن رحابة المطبخ، وحداثة أدواته؟ من ذا الذي أوحى لهم بمشاركة البشرية مقاطعَ فيديو منزلية، هُندست بعناية تشمل حتى الإضاءة، تصطنع عفوية اللحظة، تستعرض حميميّة الألفة، وتستغل خلفية اللقطة أثناء رقصهم وغنائهم، لتعرض مُقتنياتهم؛ من بيانو وغيتار، وشاشة "أوليد Oled" بسعة الجدار. من الذي أكّد لهم أن تلك هي وسيلتهم للتضامن؟ وأن ذلك سيُخفف عبء القطاع الصحي، وسيُدخل البسمة على الوجوه الواهنة المتعبة والمُقنعة، إما بقماش كتانٍ سميك، أو بزجاجٍ لدنٍ شفاف موصول إلى أنبوب للأوكسجين.
الجواب طبعاً: لا أحد، سوى مديري تسويق فيسبوك وتويتر وإنستغرام، وحديثاً؛ تيك توك. بالنسبة إليّ، لكم كنت أتمنى ألا أحظى بمتعة مشاهدة نجم الهيب - هوب الشهير دريك Drake وهو يتسكّع ملثماً كلصّ في "دارته"، باستلهام الاسم الذي يحلو للإعلام في لبنان إطلاقه على قصور زعمائه السياسيين. لكن ما حدث قد حدث، فبإصداره "كورونيّته" الأخيرة المعنونة Toosie Slide، يكاد ينحدر مسرعاً من رتبة واحدٍ من أنجح "صُناع التقليعة" Trend Maker في تاريخ البوب المعاصر، إلى آخَر كسائر رُكّاب الموجة، أو الجائحة ربما، بتعبير أوكب وأدق.
الزمان، موعد رَفْع الفيديو على الإنترنت، حين تشير الساعة إلى العاشرة وعشرين دقيقة ليلاً. المكان، وسط مدينة تورونتو الكندية، مسقط رأس دريك حيث شيّد في إحدى ضواحيها المترفة قصره بكلفة تزيد عن المئة مليون دولار. الشوارع خالية، والملاهي مقفلة، في إشارة من دون شك، إلى أجواء الحجر الصحي. فجأة، كمن يقتحم منزله في جنح الظلام، داخل سترة عسكرية وخلف قناع لا يُقْنع، وإنما يوحي فقط بالتزامه إجراءات الوقاية، يظهر من يبدو أنه دريك، يتبختر وخلفه عدسة كاميرا تتحرك كضيف يتبع خُطاه، يتجوّل بها في أرجاء قاعة رخامية فارهة أشبه بمتحف، تحوي خزائن زجاجية تأوي عديد الجوائز التي نالها، من بينها أربع غرامي وسبع وعشرون بلبورد.
يتابع الخطو والغناء، بأسلوبه البسيط المينيمالي، الهادئ واللامبالي، السطحي السلس، والشجيّ الشَجِن، على طريقة "الهيب الهوب الشاعري"؛ حيث يُكرر فواصل ثابتة مُلحّنة ومتماثلة. يصل إلى بهو من رخام أبيض كأبهاء الفنادق أو بلائط القصور. عبر كلمات الأغنية، وعلى إيقاعاتها، يشرع في تلقيننا رقصته الجديدة الخاصة بالوباء. مراده، في ما يبدو، إحداث ظاهرة فيروسية viral هذه المرة من داخل البيوت، كتلك التي أثارتها أغنية Kiki do you love me ضمن ألبومه Scorpion من إصدار عام 2018.
وقتها، أخذ ملايين البشر حول الكوكب يصورون ذواتهم بجوالاتهم وهم يؤدون الرقصة الشهيرة بأطرَف الطرق وأغرَب الأوضاع، فيرفعونها أون لاين مُطلقين تظاهرة عُرفت بـ "صيف تحدّي كيكي" التي جعلت من موقع تيك توك، العبثي والمغمور، يتسيّد مواقع الجذب والإثارة من بين منصّات السوشال ميديا، وبالأخص نسبةً إلى اليافعين، عشّاق دريك، ممن يُعرفون بالجِنريشن زي Gz.
كان لـ دريك ما أراد، هو النجم الجهبذ؛ صانع التقليعة الأبرع، وصاحب الذكاء التسويقي. إذ ها هي حمّى تووسي سلايد، تُسابق "كوفيد 19" وتنتشر من بلد إلى بلد، ومن بيت إلى بيت، ومن حساب تيك توك إلى آخر. لتُضاف وسيلة أخرى إلى وسائل استعراض الحياة على الإنترنت، في أردية النوم المرقطّة، وبناطيل اليوغا المشدودة، في ظل مواسم الحجر الصحي وطقوس النأي الاجتماعي المُستعرة في جميع أنحاء الأرض.
لكن، ماذا لو أن دريك، عن طريق هذا الفيديو- كليب الغريب، الركيك والمُضطرب كاضطراب الأجواء الراهنة، إنما يوجه رسالة مفادها، ألا يُزايدنّ أحدٌ على أحدٍ أونلاين بعد الآن بعرض نفسه وأفراد أسرته، وملابس نومه وأثاث منزله وحيواناته البريّة والأليفة. لنفترض جدلاً، ولربما عبثاً، أن دريك تجاوز كونه صانع تقليعة فريداً وأيقونة شبابية ساطعة، وأنه لوهلة وفي مستوى رمزي عميق، صار ناقداً اجتماعياً، يصيح مجازياً: كفى تبجُّحاً بالعزلة! الزموا البيوت، اقرؤوا كتاباً، شاهدوا فيلماً معاً، أعدّوا قالب حلوى لأطفالكم، أقفلوا مسارح الأنا، توجهوا نحو الآخر، نحو الداخل، نحو الهادئ المُتفكّر، تأملوا، تريّثوا، تضامنوا بصمت، بسكينة وإيثار، فالكثير الكثير غيركم، في المشافي والمستوصفات وفي المخيمات، في المخازن وعلى متون ناقلات القمامة، لا يملكون نعيم الوقاية من العدوى.
هاكم، انظروا إليّ، ما قيمة بركة السباحة في غرفة النوم لديّ؟ ما جدوى ملعبٍ لكرة السلة في قاعة الجلوس عندي؟ إن بِتُّ مُعتزِلاً، مُحتجِباً خلف لثام وسورٍ بعلوّ خمسة أمتار، أرقص وحيداً على رخام باردٍ وقاسٍ قسوة هذه الأيام. ما من مطعم صغير أتناول الغداء فيه، ولا مقهى ألتقي أصحابي حول إحدى موائده، لا نُزهة مع العائلة في الحديقة المجاورة، لا زيارة لحلاّق الحيّ، ولا إلقاءَ للتحية على الجار قبالة دكان البقالة عند ناصية الطريق.
بيد أن دريك، ليس ناقداً اجتماعياً، ولا هو يدّعي ذلك أصلاً. إنه موسيقي ومنتج فني حذِق، يُجيد استباق الحاضر، لكن لا يعنيه استشراف المستقبل. بنمط أغنيته الشبابية الهيب Hip والكوول Cool خاملة النبرة، مُقنّنة المشاعر مُمَدّدة الأحاسيس، يعكس حال إنسان الآن، النرجسي والوحداني، الحزين وإن بالتزام الحياد بإزاء النزاع الجوّاني والامتناع عن الانفعال والاقتراب من الوجع الوجداني. همّ أغنيته، تلطيف الأجواء وتكييف الأمزجة سواءً أثناء قيادة سيارة حديثة، أو عبر سماعات بلو- تووث مزوّدة بتقنية إلغاء ضوضاء الخارج، وعزل الداخل عن الأسئلة المُلحّة والمخاطر المُحدقة بالوجود الإنساني.
اقــرأ أيضاً
يُختتم فيديو الأغنية بمشهد حفل إطلاق ألعاب نارية من حديقة القصر الخلفية، يُضيء ليل تورونتو البارد بأنوار الألوان البرّاقة البهية. مشهدُ ألعاب نارية آخر، مُناقض ومُختلف الغاية والدلالة، انطلق منذ أسبوع إثر مواجهات في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس احتجاجاً على عنصرية الشرطة وسوء معاملتها للسكان. هناك، حيث يقطن صغار الكسبة والأقليات العرقية المُهمّشة، التي سبق لدريك أن غازل شُبّانها في أزيائه وفي بعض أغانيه كثلاثاء Tuesday وأسوأ تصرف Worst Behaviour، والتي باتت تتحمل العبء الاقتصادي الأكبر الناجم عن إجراءات الإقفال وحظر التجوال وإغلاق المحال والمطاعم والأشغال، لا قصور فارهة هناك ولا منازل عصرية تستحق أن تكون منصّات لرقصة تووسي سلايد تحت الحجر، لا ديكورات هناك، لجني اللايكات والتعليقات على تيك توك وتويتر.
الجواب طبعاً: لا أحد، سوى مديري تسويق فيسبوك وتويتر وإنستغرام، وحديثاً؛ تيك توك. بالنسبة إليّ، لكم كنت أتمنى ألا أحظى بمتعة مشاهدة نجم الهيب - هوب الشهير دريك Drake وهو يتسكّع ملثماً كلصّ في "دارته"، باستلهام الاسم الذي يحلو للإعلام في لبنان إطلاقه على قصور زعمائه السياسيين. لكن ما حدث قد حدث، فبإصداره "كورونيّته" الأخيرة المعنونة Toosie Slide، يكاد ينحدر مسرعاً من رتبة واحدٍ من أنجح "صُناع التقليعة" Trend Maker في تاريخ البوب المعاصر، إلى آخَر كسائر رُكّاب الموجة، أو الجائحة ربما، بتعبير أوكب وأدق.
الزمان، موعد رَفْع الفيديو على الإنترنت، حين تشير الساعة إلى العاشرة وعشرين دقيقة ليلاً. المكان، وسط مدينة تورونتو الكندية، مسقط رأس دريك حيث شيّد في إحدى ضواحيها المترفة قصره بكلفة تزيد عن المئة مليون دولار. الشوارع خالية، والملاهي مقفلة، في إشارة من دون شك، إلى أجواء الحجر الصحي. فجأة، كمن يقتحم منزله في جنح الظلام، داخل سترة عسكرية وخلف قناع لا يُقْنع، وإنما يوحي فقط بالتزامه إجراءات الوقاية، يظهر من يبدو أنه دريك، يتبختر وخلفه عدسة كاميرا تتحرك كضيف يتبع خُطاه، يتجوّل بها في أرجاء قاعة رخامية فارهة أشبه بمتحف، تحوي خزائن زجاجية تأوي عديد الجوائز التي نالها، من بينها أربع غرامي وسبع وعشرون بلبورد.
يتابع الخطو والغناء، بأسلوبه البسيط المينيمالي، الهادئ واللامبالي، السطحي السلس، والشجيّ الشَجِن، على طريقة "الهيب الهوب الشاعري"؛ حيث يُكرر فواصل ثابتة مُلحّنة ومتماثلة. يصل إلى بهو من رخام أبيض كأبهاء الفنادق أو بلائط القصور. عبر كلمات الأغنية، وعلى إيقاعاتها، يشرع في تلقيننا رقصته الجديدة الخاصة بالوباء. مراده، في ما يبدو، إحداث ظاهرة فيروسية viral هذه المرة من داخل البيوت، كتلك التي أثارتها أغنية Kiki do you love me ضمن ألبومه Scorpion من إصدار عام 2018.
وقتها، أخذ ملايين البشر حول الكوكب يصورون ذواتهم بجوالاتهم وهم يؤدون الرقصة الشهيرة بأطرَف الطرق وأغرَب الأوضاع، فيرفعونها أون لاين مُطلقين تظاهرة عُرفت بـ "صيف تحدّي كيكي" التي جعلت من موقع تيك توك، العبثي والمغمور، يتسيّد مواقع الجذب والإثارة من بين منصّات السوشال ميديا، وبالأخص نسبةً إلى اليافعين، عشّاق دريك، ممن يُعرفون بالجِنريشن زي Gz.
كان لـ دريك ما أراد، هو النجم الجهبذ؛ صانع التقليعة الأبرع، وصاحب الذكاء التسويقي. إذ ها هي حمّى تووسي سلايد، تُسابق "كوفيد 19" وتنتشر من بلد إلى بلد، ومن بيت إلى بيت، ومن حساب تيك توك إلى آخر. لتُضاف وسيلة أخرى إلى وسائل استعراض الحياة على الإنترنت، في أردية النوم المرقطّة، وبناطيل اليوغا المشدودة، في ظل مواسم الحجر الصحي وطقوس النأي الاجتماعي المُستعرة في جميع أنحاء الأرض.
لكن، ماذا لو أن دريك، عن طريق هذا الفيديو- كليب الغريب، الركيك والمُضطرب كاضطراب الأجواء الراهنة، إنما يوجه رسالة مفادها، ألا يُزايدنّ أحدٌ على أحدٍ أونلاين بعد الآن بعرض نفسه وأفراد أسرته، وملابس نومه وأثاث منزله وحيواناته البريّة والأليفة. لنفترض جدلاً، ولربما عبثاً، أن دريك تجاوز كونه صانع تقليعة فريداً وأيقونة شبابية ساطعة، وأنه لوهلة وفي مستوى رمزي عميق، صار ناقداً اجتماعياً، يصيح مجازياً: كفى تبجُّحاً بالعزلة! الزموا البيوت، اقرؤوا كتاباً، شاهدوا فيلماً معاً، أعدّوا قالب حلوى لأطفالكم، أقفلوا مسارح الأنا، توجهوا نحو الآخر، نحو الداخل، نحو الهادئ المُتفكّر، تأملوا، تريّثوا، تضامنوا بصمت، بسكينة وإيثار، فالكثير الكثير غيركم، في المشافي والمستوصفات وفي المخيمات، في المخازن وعلى متون ناقلات القمامة، لا يملكون نعيم الوقاية من العدوى.
هاكم، انظروا إليّ، ما قيمة بركة السباحة في غرفة النوم لديّ؟ ما جدوى ملعبٍ لكرة السلة في قاعة الجلوس عندي؟ إن بِتُّ مُعتزِلاً، مُحتجِباً خلف لثام وسورٍ بعلوّ خمسة أمتار، أرقص وحيداً على رخام باردٍ وقاسٍ قسوة هذه الأيام. ما من مطعم صغير أتناول الغداء فيه، ولا مقهى ألتقي أصحابي حول إحدى موائده، لا نُزهة مع العائلة في الحديقة المجاورة، لا زيارة لحلاّق الحيّ، ولا إلقاءَ للتحية على الجار قبالة دكان البقالة عند ناصية الطريق.
بيد أن دريك، ليس ناقداً اجتماعياً، ولا هو يدّعي ذلك أصلاً. إنه موسيقي ومنتج فني حذِق، يُجيد استباق الحاضر، لكن لا يعنيه استشراف المستقبل. بنمط أغنيته الشبابية الهيب Hip والكوول Cool خاملة النبرة، مُقنّنة المشاعر مُمَدّدة الأحاسيس، يعكس حال إنسان الآن، النرجسي والوحداني، الحزين وإن بالتزام الحياد بإزاء النزاع الجوّاني والامتناع عن الانفعال والاقتراب من الوجع الوجداني. همّ أغنيته، تلطيف الأجواء وتكييف الأمزجة سواءً أثناء قيادة سيارة حديثة، أو عبر سماعات بلو- تووث مزوّدة بتقنية إلغاء ضوضاء الخارج، وعزل الداخل عن الأسئلة المُلحّة والمخاطر المُحدقة بالوجود الإنساني.
يُختتم فيديو الأغنية بمشهد حفل إطلاق ألعاب نارية من حديقة القصر الخلفية، يُضيء ليل تورونتو البارد بأنوار الألوان البرّاقة البهية. مشهدُ ألعاب نارية آخر، مُناقض ومُختلف الغاية والدلالة، انطلق منذ أسبوع إثر مواجهات في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس احتجاجاً على عنصرية الشرطة وسوء معاملتها للسكان. هناك، حيث يقطن صغار الكسبة والأقليات العرقية المُهمّشة، التي سبق لدريك أن غازل شُبّانها في أزيائه وفي بعض أغانيه كثلاثاء Tuesday وأسوأ تصرف Worst Behaviour، والتي باتت تتحمل العبء الاقتصادي الأكبر الناجم عن إجراءات الإقفال وحظر التجوال وإغلاق المحال والمطاعم والأشغال، لا قصور فارهة هناك ولا منازل عصرية تستحق أن تكون منصّات لرقصة تووسي سلايد تحت الحجر، لا ديكورات هناك، لجني اللايكات والتعليقات على تيك توك وتويتر.