يبدأ المواطنون في شمال السودان في هذه الأيام حصاد التمر أو ما يعرف محلياً بـ "حشّ البلح". هذا التقليد هو بمثابة عيد موسمي تلتقي خلاله الأسر المشتتة في مختلف أنحاء البلاد، بهدف جني ثمار التمر. ويعدّ حصاد التمر كالعودة إلى الجذور لدى القبائل النوبية "محس" و"دناقلة" و"حلفاويين"، بالإضافة إلى قبائل الشايقية التي تقطن في شمال السودان، وتشتهر بإنتاج التمر، ما يميزها عن باقي المناطق.
كثيرون من أفراد هذه القبائل يعودون إلى قراهم للمشاركة في "حشّ البلح". بالنسبة إليهم، لا يعد البدل المادي الهدف الأول على الرغم من أهميته الاقتصادية للمنطقة التي تعتمد عليه بشكل أساسي لتسيير حياتها اليومية. المناسبة بحدّ ذاتها تعدّ ذات أهمية اجتماعية لما تشهده من تكافل اجتماعي. وخلال هذا الموسم، عادة ما تنظّم حفلات الزفاف وختان الأطفال في جوٍّ احتفالي كبير يهدف إلى توسيع دائرة المشاركين. ويعتمد الحصاد على "اللّمة"، ويبدأ الناس في التجمع منذ الصباح الباكر وحتى غروب الشمس، ويتناولون طعامهم معاً ويتسامرون وينشدون أغنيات تحكي عن أشجار النخيل.
ولدى غرس أي نخلة، عادة ما يردّد الأهالي قولاً قديماً: "أيتها النخلة، نحن نغرسك هبة للجائع والفقير والمحتاج والسارق". قولٌ يشير إلى التكافل في هذه المناسبة. في موسم الحصاد يعمل الجميع، حتى أولئك الذين ليس لديهم نخيل. في المقابل، يحرص أولئك الذين يملكون النخيل على إعطاء ثمار لمن يفتقر إليها، بالإضافة إلى العمل على تحديد نصيب المحتاجين أولاً وقبل اقتسام المحصول بين أفراد الأسرة الواحدة.
أيضاً، يعدّ موسم البلح بمثابة فرصة لتسديد الديون وشراء ملابس جديدة وحتى شراء بيوت والزواج وغيرها. عند أذان الفجر، يستعد أهالي الشمالية للذهاب إلى الحقل بهدف حصاد التمر. في السياق، يقول نور عبد المطلب لـ "العربي الجديد" إن موسم البلح يعد استثنائياً بالنسبة لأهالي القرية، وخصوصاً أن الجميع يشاركون في هذا العمل. في كثير من الأحيان، قد تمتد العملية لأكثر من أسبوعين. خلالها، يلتقي الأهالي يومياً في الحقل، ويقضون أوقاتاً جميلة ويتسامرون ويضحكون ويتبادلون الأخبار.
يضيف: "تشترك النساء في الحصاد. توكل لهن مهمة تنظيف المحصول، بالإضافة إلى تحضير الطعام والمشروبات من شاي وقهوة وعصائر". بالنسبة إليه، هذا موسم يتيح للأهل اللقاء، بعدما تشتتوا بفعل الظروف في مختلف أنحاء البلاد. ويوضح أن الحصاد يعتمد بشكل أساسي على المنجل، علماً أنها طريقة بدائية.
بالنسبة لأحمد، فإن موسم الحصاد يعدّ فرصة مناسبة لاختيار الزوجة، وخصوصاً أنه يلتقي بكثير من الفتيات اللواتي يشتركن في عملية الحصاد. يضيف أنه لهذا السبب، يطلق عليه اسم "موسم السكاكة". وكثيراً ما يأتي الشباب من المدن ويتعرفون إلى فتيات قريتهم، ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى الخطوبة أو الزواج. في الوقت نفسه، يشرح أن الموسم يعد الأمثل لتسديد الديون، مضيفاً أنه قد تعمد الأسر في القرية إلى قضاء جميع احتياجاتها في مقابل تقديم تمور لأصحاب المتاجر أو غيرهم.
ويحرص الصبية وبعض الفقراء على جمع ما يعرف محلياً باسم "تمر الهبوب"، وهو ذلك الذي يسقط أرضاً بفعل الرياح قبيل الحصاد. هذه الشريحة تقصد الحقول باكراً بهدف جمع التمور، من دون أن يكون لأحد الحق في اعتراضهم.
وتعدّ النخلة مصدراً للتفاخر بين أهالي الشمال، علماً أن مقياس الغنى والفقر يحدده عدد النخلات. فمن يملك العدد الأكبر يعتبر "سيد البلد". هذا الأمر ينعكس على وضعهم المعيشي، حتى أنهم يستطيعون فرض شروط تتعلق بالزواج.
إلى ذلك، في ظل التغيرات وزيادة نسب التعليم في الريف، ولجوء معظم الشباب إلى الهجرة، بدأت بعض المظاهر تختفي، فيما تراجعت في مناطق أخرى عملية الحصاد وفقاً للتقاليد القديمة.
في السياق، يقول نور: "اختفت بعض المظاهر. ترفض بعض الفتيات النزول إلى الحقل. كما أن عدداً من أصحاب أشجار النخيل صاروا يعمدون إلى الاستعانة بعمال للحصاد، على الرغم من أن ذلك لم يكن مسموحاً في ما مضى". يضيف: "حتى قيمة التمر تراجعت وخصوصاً بعد انفصال الجنوب وتكوين دولته المستقلة عام 2011، علماً أنه كان مستهلكاً له"، لافتاً إلى تراجع سعره أيضاً.
من جهته، يقول كمال إن حصاد البلح يعد استثنائياً بالنسبة للأهالي إذ يشارك الجميع في عملية الحصاد، لافتاً إلى أن الأمر بمثابة عرف اجتماعي.
اقرأ أيضاً: الجفاف يهدد صغار المزارعين في السودان