لم يتجاوز الروائي الفرنسي إدوارد لويس الرابعة والعشرين من العمر. ولهذا السبب ظلّ النقاد ومتابعو الشأن الأدبي ينعتونه بـ"الكاتب الشاب". ولكن عمله الأخير "حكاية العنف" (وهو الثاني في مسيرته الأدبيّة) دفع بالكثيرين إلى مراجعة هذه النعوت وإلى وضع نقطتَيْ استفهام وتعجّب بعدها، وقد تبيّن لهم أنّ إدوارد لويس ألقى حجرا ضخما في بركة الحياة وعلى سطح المفاهيم النقديّة الراكدة ممّا اضطرّه إلى المثول أمام القضاء الفرنسي بتهمة غير مسبوقة لعلّ أغرب ما فيها أنّ من رفعها ضدّه ليس إلاّ شخصيّة من شخصيّات روايته!
الكاتب الذي خرج من جلده
منذ عتبات النص الأولى يضع إدوارد لويس قارئه في مفترق التأويلات المحيّرة. فقد اختار لعمله عنوانا زئبقيا ينفتح بنا على أفُـقَـيْ انتظار مختلفَـيْـن: أفق انتظار أوّل يمكننا أن نترجم فيه العنوان بـ"تاريخ العنف"، وفي ظنّنا أنّ الكتاب هو عبارة عن دراسة علميّة رصينة تخضع لشروط الكتابة الأكاديمية وضوابطها. وأفق انتظار ثانٍ، يجوز لنا فيه أن نُعرِّب العنوان بـ"حكاية العنف" أو "حكاية عنف"، على أساس أنّ الأمر يتعلّق بعمل تخييليّ سرديّ منطلقه واقعة كهذه التي تزخر بها صفحات القضايا والحوادث.
وممّا يجعل أفُـقَـي الانتظار ممكنَيْن أنّ إدوارد لويس لم يشتهر بصفته روائيا فقط، بل عُرِفَ أيضا بإسهاماته في مجالات علم الاجتماع والفكر السياسي. والأطرف من هذا وذاك أنّ الكاتب قد تعمّد في الماضي القريب الإيقاع بقرّائه في مأزق التأويل ووضعهم في مفترق الدلالات بين "الحقيقة الثابتة" و"التخييل المتحوّل".
فقد سبق له أن أقدم سنة 2013 على ما لم يسبق لغيره من الكتاب الفرنسيّين القيام به، حين استصدر حُكما مدنيا غيّر بمقتضاه هويّته فاستبدل الاسم الذي ولد به، "إيدي"، بـاسم "إدوارد"، وتخلّى عن لقبه العائلي "بال غول" مفضّلا عليه لقب "لويس"؛ ثمّ جعل من هذه الوقائع الحقيقيّة مادّة لروايته الأولى التي عنوانها "في القطع مع إيدي بال غول" (2015). وهي رواية كانت غايته القصوى من ورائها أن "يخرج من جلده" لا لكي يعرفه الآخرون، بل ليعرف نفسَه ويُـعـرّفها ويعرّي مكبوتاتها في سياق مراجعة أصرّ فيها على رفض شروط التصالح مع الآخرين معتبرا أنّها شروط قائمة على الزيف الاجتماعي والنفاق الفئوي ومصادرة الحريّة الفرديّة واختزال الذات في الأحكام المسبقة.
تقاطع الحياة والنصوص
ومواصلةً لنفس النهج الذي يتقاطع فيه النصّ مع الحياة كتب إدوارد لويس روايته الثانية "حكاية العنف" متعمّدا إرباك القارئ وخلخلة المواضعات. فقد انطلق من حادثة حقيقيّة كان طرفا فيها بل محورا لها. وملخّصها أنّه -وفي أثناء عودته من احتفالات أعياد الميلاد ليلة الرابع والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول 2012- تعرّف على شخص جزائري الجنسيّة اسمه "رضا" واستضافه في شقّته وقضّى معه ليلة ممتعة استمع فيها إلى حكايات عن طفولته الصعبة وظروف انتقال أسرته إلى فرنسا. ولكنّ ليلة المتعة والمكاشفة سرعان ما انقلبت إلى مسرح فجيعة ومصادمة كان الكاتب ضحيّتها بعدما هتك "رضا" عِرضه تحت تهديد السلاح، ممّا اضطرّه إلى رفع دعوى ضد الضيف الذي غاب في الزحام.
كان كلّ شيء موثّقا لدى الدوائر الرسميّة، ولكنّ الأمر لم يكن على نفس الصورة في صفحات العمل، لأنّ إدوارد لويس لم يصغ وقائع "حكاية العنف" على أساس كونها سيرة ذاتيّة بالمعنى المتعارف عليه في هذا الجنس الأدبي. فنحن نفتقد لما اصطلح الناقد الفرنسي فيليب لوجون على تسميته بـ"العقد السيرذاتي" ذاك الذي يجعل النصّ ملزِما لراويه باعتباره المسؤول الأول والأخير عن صدقيّة الأحداث الواردة فيه ومطابقتها للحقائق الموضوعيّة. ففي السيرة الذاتيّة، لا بدّ للكاتب من أن يلتزم أمام قرّائه جهرا ودون مواربة بأنه يروي لهم "الحقيقة، كلّ الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة" حتّى يتلقّوْها منه على أساس كونها كذلك.
ولكنّ إدوارد لويس أخلّ بهذا "العقد" في أكثر من مستوى. فقد نصّص في الغلاف الخارجي للكتاب على أنّ عمله من جنس "الرواية" لا من جنس "السيرة الذاتيّة". بالإضافة إلى أنّ من يقرأ العمل ينتبه بجلاء إلى تعدّد الأصوات فيه حتى لكأنّ إدوارد لويس انسحب من "حكايته"، أو كاد، مفسحا المجال أمام الآخرين لكي يرووها بدلا عنه مكتفيا بدور الشاهد/الشهيد.. انسحب لكي ينظر إلى الحكاية من زاوية التحليل الاجتماعي والنفسي في محاولة منه للإجابة على السؤال الأساسيّ: لماذا ينشأ العنف بين البشر؟
ومن خلال هذا الأفق الجديد الذي سحب الكاتب نحوه "سيرته المسرودة" استطاع العودة إلى طفولته ليتأمّلها ويتأمّل معها واقع مغتصِبه ودوافع فعلته، واصلا ذلك بقضايا الهجرة والعنصرية والبؤس مُبديا تفهّما كبيرا لمظاهر الفجيعة التي يمكن أن تحلّ بالإنسان.
ولعلّ من أطرف ما استتبعته "حكاية العنف" في تراوحها بين الواقع والمتخيّل أنّ الشرطة قد ألقت القبض على "رضا" الذي تبيّن أنّه مغربيّ لا جزائريّ والذي أثبتت التحاليل الجينيّة أنّه حقّا صاحب الفعلة. ولكنّ "رضا" تمرّد على كاتبه ورفع ضدّه دعوى يتّهمه فيها بانتهاك الخصوصيّة والمساس بمبدأ البراءة قبل ثبوت الإدانة! قضيّة ما زالت مطروحة أمام أنظار القضاء الفرنسي في انتظار تبيّن فروق ما بين السيرة الذاتية والسيرة المتخيّلة والعنف الماديّ والرمزيّ!
(كاتب تونسي)
اقــرأ أيضاً
الكاتب الذي خرج من جلده
منذ عتبات النص الأولى يضع إدوارد لويس قارئه في مفترق التأويلات المحيّرة. فقد اختار لعمله عنوانا زئبقيا ينفتح بنا على أفُـقَـيْ انتظار مختلفَـيْـن: أفق انتظار أوّل يمكننا أن نترجم فيه العنوان بـ"تاريخ العنف"، وفي ظنّنا أنّ الكتاب هو عبارة عن دراسة علميّة رصينة تخضع لشروط الكتابة الأكاديمية وضوابطها. وأفق انتظار ثانٍ، يجوز لنا فيه أن نُعرِّب العنوان بـ"حكاية العنف" أو "حكاية عنف"، على أساس أنّ الأمر يتعلّق بعمل تخييليّ سرديّ منطلقه واقعة كهذه التي تزخر بها صفحات القضايا والحوادث.
وممّا يجعل أفُـقَـي الانتظار ممكنَيْن أنّ إدوارد لويس لم يشتهر بصفته روائيا فقط، بل عُرِفَ أيضا بإسهاماته في مجالات علم الاجتماع والفكر السياسي. والأطرف من هذا وذاك أنّ الكاتب قد تعمّد في الماضي القريب الإيقاع بقرّائه في مأزق التأويل ووضعهم في مفترق الدلالات بين "الحقيقة الثابتة" و"التخييل المتحوّل".
فقد سبق له أن أقدم سنة 2013 على ما لم يسبق لغيره من الكتاب الفرنسيّين القيام به، حين استصدر حُكما مدنيا غيّر بمقتضاه هويّته فاستبدل الاسم الذي ولد به، "إيدي"، بـاسم "إدوارد"، وتخلّى عن لقبه العائلي "بال غول" مفضّلا عليه لقب "لويس"؛ ثمّ جعل من هذه الوقائع الحقيقيّة مادّة لروايته الأولى التي عنوانها "في القطع مع إيدي بال غول" (2015). وهي رواية كانت غايته القصوى من ورائها أن "يخرج من جلده" لا لكي يعرفه الآخرون، بل ليعرف نفسَه ويُـعـرّفها ويعرّي مكبوتاتها في سياق مراجعة أصرّ فيها على رفض شروط التصالح مع الآخرين معتبرا أنّها شروط قائمة على الزيف الاجتماعي والنفاق الفئوي ومصادرة الحريّة الفرديّة واختزال الذات في الأحكام المسبقة.
تقاطع الحياة والنصوص
ومواصلةً لنفس النهج الذي يتقاطع فيه النصّ مع الحياة كتب إدوارد لويس روايته الثانية "حكاية العنف" متعمّدا إرباك القارئ وخلخلة المواضعات. فقد انطلق من حادثة حقيقيّة كان طرفا فيها بل محورا لها. وملخّصها أنّه -وفي أثناء عودته من احتفالات أعياد الميلاد ليلة الرابع والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول 2012- تعرّف على شخص جزائري الجنسيّة اسمه "رضا" واستضافه في شقّته وقضّى معه ليلة ممتعة استمع فيها إلى حكايات عن طفولته الصعبة وظروف انتقال أسرته إلى فرنسا. ولكنّ ليلة المتعة والمكاشفة سرعان ما انقلبت إلى مسرح فجيعة ومصادمة كان الكاتب ضحيّتها بعدما هتك "رضا" عِرضه تحت تهديد السلاح، ممّا اضطرّه إلى رفع دعوى ضد الضيف الذي غاب في الزحام.
كان كلّ شيء موثّقا لدى الدوائر الرسميّة، ولكنّ الأمر لم يكن على نفس الصورة في صفحات العمل، لأنّ إدوارد لويس لم يصغ وقائع "حكاية العنف" على أساس كونها سيرة ذاتيّة بالمعنى المتعارف عليه في هذا الجنس الأدبي. فنحن نفتقد لما اصطلح الناقد الفرنسي فيليب لوجون على تسميته بـ"العقد السيرذاتي" ذاك الذي يجعل النصّ ملزِما لراويه باعتباره المسؤول الأول والأخير عن صدقيّة الأحداث الواردة فيه ومطابقتها للحقائق الموضوعيّة. ففي السيرة الذاتيّة، لا بدّ للكاتب من أن يلتزم أمام قرّائه جهرا ودون مواربة بأنه يروي لهم "الحقيقة، كلّ الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة" حتّى يتلقّوْها منه على أساس كونها كذلك.
ولكنّ إدوارد لويس أخلّ بهذا "العقد" في أكثر من مستوى. فقد نصّص في الغلاف الخارجي للكتاب على أنّ عمله من جنس "الرواية" لا من جنس "السيرة الذاتيّة". بالإضافة إلى أنّ من يقرأ العمل ينتبه بجلاء إلى تعدّد الأصوات فيه حتى لكأنّ إدوارد لويس انسحب من "حكايته"، أو كاد، مفسحا المجال أمام الآخرين لكي يرووها بدلا عنه مكتفيا بدور الشاهد/الشهيد.. انسحب لكي ينظر إلى الحكاية من زاوية التحليل الاجتماعي والنفسي في محاولة منه للإجابة على السؤال الأساسيّ: لماذا ينشأ العنف بين البشر؟
ومن خلال هذا الأفق الجديد الذي سحب الكاتب نحوه "سيرته المسرودة" استطاع العودة إلى طفولته ليتأمّلها ويتأمّل معها واقع مغتصِبه ودوافع فعلته، واصلا ذلك بقضايا الهجرة والعنصرية والبؤس مُبديا تفهّما كبيرا لمظاهر الفجيعة التي يمكن أن تحلّ بالإنسان.
ولعلّ من أطرف ما استتبعته "حكاية العنف" في تراوحها بين الواقع والمتخيّل أنّ الشرطة قد ألقت القبض على "رضا" الذي تبيّن أنّه مغربيّ لا جزائريّ والذي أثبتت التحاليل الجينيّة أنّه حقّا صاحب الفعلة. ولكنّ "رضا" تمرّد على كاتبه ورفع ضدّه دعوى يتّهمه فيها بانتهاك الخصوصيّة والمساس بمبدأ البراءة قبل ثبوت الإدانة! قضيّة ما زالت مطروحة أمام أنظار القضاء الفرنسي في انتظار تبيّن فروق ما بين السيرة الذاتية والسيرة المتخيّلة والعنف الماديّ والرمزيّ!
(كاتب تونسي)