هل أسّس الفكر البشري للحياة المشتركة؟ إنه السؤال الذي حاول الإجابة عليه المفكر الفرنسي البلغاري الراحل تزفيتان تودوروف (1939-2017)، في كتابه "الحياة المشتركة" الذي صدرت مؤخراً ترجمته للعربية عن "دار نينوى" وأنجزها منذر عياشي. إنه بحث في تلك العلاقة بين الأنا والآخر، بين الإنسان وأقرانه، بين الذات والمجتمع.
منذ المقدمة، يوضّح المؤلف رغبته في مقاربة الموضوعة من حقل الأنثروبولوجيا، التي يراها تختص بدراسة المجتمعات وثقافتها، والتي تدل بمعناها الحرفي عن "معرفة الإنسان"، فيكتب موضحاً في هذا الصدد: "يعد حقل الأنثروبولوجيا، الممتد على هذه الصورة، حقلاً واسعاً. وإني أرغب الآن في أن أتجه نحو جزء واحد من أجزائه؛ ليس معالجة مكانة الإنسان في المجتمع، كما نفعل ذلك عادة، بل عكس ذلك، معالجة مكانة المجتمع في الإنسان".
في نظرة سريعة إلى التاريخ الإنساني، يستخلص تودوروف بأن التيارات الكبرى للفكر التي اهتمت بتعريف ما هو إنساني، تتناقض في التعامل مع سؤال العلاقة بين الإنسان والآخر، ويميّز بين تيارين أساسيين يطلق على الأول مسمّى تيار "التقاليد الاجتماعية"، أما التيار الثاني فهو تيار "الاكتشاف بالآخر".
الأول هو التيار الذي يهمل العلاقة بين الإنسان والآخر، ولا يهتم بالبعد الاجتماعي، أو العيش المشترك، بل على العكس، تأتي الخلاصة لصالح مقولات مثل "إن معاشرة البشر الآخرين تعدّ حِملاً"، "يجب على المرء أن يحاول التخلص من الآخرين" ، "الحكيم يتوق إلى التقشف والاكتفاء الذاتي"، أو "الإنسان ذئب بالنسبة إلى الإنسان".
كذلك كان المفكر الفرنسي فرانسوا دي مونتاني (1533-1592) يقدم النصيحة إلى أقرانه، فيكتب : "فلتكن موافقتنا منوطة بنا فقط، ولنتخلص من كل الارتباطات التي تربطنا بالآخر، ولنحمل على عاتقنا القدرة على العيش وحدنا بدراية، وأن نعيش كما يحلو لنا". مما يعني أن مونتاني يؤيد، بل يجد من المحمود، أن يتحرّر الفرد من العلاقات مع الكائنات الإنسانية الأخرى.
ضمن تيار "التقاليد الاجتماعية"، يصنف تودوروف أيضاً ما قدمه لاروشفوكو (1613 - 1680) حين كتب: "لن يعيش البشر طويلاً في مجتمع، إذا لم يكن بعضهم خديعة الآخر"، وكذلك عبارة بليز باسكال (1623 - 1662): "إن الوحدة لا تقوم بين البشر إلا على أساس الغش المتبادل". وضمن ذات السياق يتعجب الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبس (1588 - 1679) متسائلاً: "لماذا يختار البشر العيش في مجتمع؟" وكذلك يتساءل الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهاور (1788 - 1860): "من أين تأتي الحاجة إلى مجتمع؟".
نجد تقريباً التصوّر نفسه عن علاقة الإنسان بالآخر عند كانط (1724-1804)، والذي تبعاً له، فإن المنافسة الجوهرية للنوع الإنساني تكمن في "عدم اجتماعية نزعته الاجتماعية"، وفي ميوله المتناقضة في البحث وفي الهروب من المجتمع. يرى كانط أن منظور الفرد يفرض عليه رؤية الآخرين كمنافسين أو كعقبات في طريق صعوده، وإنه ليتمنى إذاً اختفاءهم.
نيتشه (1844-1900) الذي غالباً ما كان ناقداً لمفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر، يتفق في هذه النقطة مع تصوّر أسلافه عن مفهوم الحياة المشتركة. إن النموذج الذي يقدمه نيتشه، أي "الإنسان الأسمى" هو كائن يتطلع بدوره إلى العزلة أو التوحّد. فعوضاً عن حب الذات أو الأنانية لدى لاروشفوكو، يبتكر نيتشه "إرادة القوة"، فيكتب في هذا الصدد: "إني لأتصور أن أي جسد خاص يتطلع لكي يصبح سيد المكان كله، كما يتطلع إلى توسيع إرادة القوة عنده، وإلى إقصاء كل ما يقاوم توسّعه. ولكنه على الفور سيقع تحت تأثير تطلعات مماثلة لأجساد أخرى".
أما بخصوص تيار "الاكتشاف بالآخر"، فيبدأ تودوروف حديثه بالفلاسفة اليونان الذين أكدوا بأن الإنسان هو حيوان اجتماعي، ومنهم أرسطو حين يقول: "يشتمل الخير بالنسبة إلينا على علاقة مع الآخر"، هنا تصبح الصداقة بين الإنسان والآخر استحقاقاً وليس حاجة.
تحضر لأرسطو أيضاً في التأسيس لمفهوم الحياة المشتركة عبارته الشهيرة: "إن الإنسان الذي لا يقوى أن يكون عضواً في مجتمع، أو الذي لا يجد الحاجة إلى ذلك مطلقاً لأنه يكفي ذاته بذاته، فإنه لا يعدّ جزءاً من المدينة، وهو بالنتيجة إما بهيمة أو إله".
أما شيشرون الروماني (106 ق.م. - 43 ق.م.)، فهو يقيم بيّنته بهذا الشأن على أساس "الفضيلة"، فيكتب: "لقد أعطتنا الطبيعة الصداقة لكي يسمح للفضيلة التي لا يمكن أن تكون كاملة عند إنسان واحد، أن تشترك مع الآخر وأن تميل نحو الكمال".
وفي كتابه "خطاب حول أصل اللامساواة"، يرصد تودوروف جان جاك روسو كأول من وضع تصوراً جديداً للإنسان بوصفه كائناً "يحتاج إلى الآخرين"، وذلك في منتصف القرن الثامن عشر، فيقرأ في كتابه المذكور: "يعيش المتوحد في ذاته، وأما الإنسان الإجتماعي فهو الإنسان الحق، الذي لا يعرف العيش إلا من خلال رأي الآخرين. وإنه يستخلص من حكمهم فقط الإحساس بوجوده".
وفي ذات الكتاب يميّز روسو اصطلاحياً بين "حب الذات" و"احترام الذات"، ومفهوم "حب الذات" بالنسبة لروسو له حمولة إيجابية: إنه يمثل غريزة البقاء البسيطة، وهي غريزة ضرورية لكل كائن. وأما المفهوم الثاني، فيراه روسو سلبياً: إنه شعور لا يوجد إلا في المجتمع، ويقضي بمقارنتنا مع الآخرين، والحكم علينا بوصفنا أعلى منهم، والرغبة في جعلهم أدنى منّا.
في عام 1759، وجد العالم الاقتصادي الإنكليزي آدم سميث في كتابات روسو ما هيأ له لنشر كتابه "نظرية الأحاسيس الأخلاقية"، الذي دافع فيه عن الحياة المشتركة بالقول: "إن الأكثر كثافة من بين الملذات، هي تلك التي نستخلصها من نظرة معيّنة يلقيها الآخرون علينا، فالطبيعة حين صاغت الإنسان من أجل المجتمع، علمته أن يجد لذته وألمه في نظرات الآخر".
وبرأي كل من جان جاك روسو وآدم سميث، فإن أي حكم يقيمه الوعي لا بد أن يستند للإحالة إلى القيم. هذه القيم كما الأخلاق والجمال، لا يمكن أن تولد إلا عبر العيش في مجتمع.
من هذه المقولات يستخلص تودوروف أن الإنسان لا يستطيع أن يصدر حكماً على نفسه إلا عبر الخروج من الذات، والنظر إلى الذات من خلال عيون الآخرين، يكتب هنا: "فإذا أنشأنا إنساناً في عزلة، فإنه لن يستطيع أن يصدر حكماً على شيء، ولا حتى على نفسه، ستنقصه مرآة لكي يرى نفسه".
هذه المرآة التي يحتاجها كل إنسان لكي يدرك ذاته، ليست سوى التمثل الداخلي للآخر في نفوسنا، ويطلق عليه تودوروف، اسم "الوعي". فالوعي في نظره ليس إلا الآخر معمّماً، والوعي هو نظرة الآخرين في داخل كل منا. ويتعلق سلوكنا بحكم هذا الآخر المعمم، في التحليل الأخير.
إذاً يتفق تودوروف مع مصطلحات الفيلسوف الألماني هيغل (1770 - 1831) الذي يميز بين الحيوان والإنسان مبيناً أن الحيوان يتصرف باسم غريزة البقاء، محاولاً الاستحواذ على الأشياء التي تعد ضرورية بالنسبة له، كالغذاء أو إبعاد عقبات المنافسين. أما الإنسان، فيفعل ما يفعله الحيوان، ولكنه لا يكتفي به، فهو يتطلع إلى الاعتراف بقيمته، التي لا يمكن أن تأتي إلا من نظرة الآخر.
هذه العلاقة المتبادلة بين الإنسان والآخر، سواءً تحت مسمى "التقدير المتبادل" كما عند روسو، أو "الانتباه المتبادل" كما عند آدم سميث، أو المصطلح الذي يميز رؤية هيغل وهو "الاعتراف"، تؤكّد على الحاجة بين الذات والمجتمع والتي يعمل كتاب تودوروف على إضاءتها من خلال مسارات العلوم الإنسانية ومسارات الفلسفة وعلم النفس، فيمضي المؤلف في إنارة ثناياها.