جميع نساء الإسباني بيدرو ألمودوفار مغبونات. لكنهنّ لن يسوِّغن اندحارهن. قد يكنّ متأزّمات، لكنهنّ بالضرورة جبّارات، وجديرات بأقدارهن. أمهات وبنات وحفيدات وصديقات وجارات، يجتمعن بصلابة على سِتْر مساحة حرياتهن، كما هو عناد الزوجة المتوحّدة غلوريا، في "ماذا فعلت لكي أستحق هذا؟" (1984)، ورغباتهن المتجلّية ببهاء نادر في حكاية بيبا، في "نساء عند حافة الانهيار العصبي" (1988)، واقتتالهن من أجل القصاص والتفجّر في محنة رايموندا، في "فولفر" (عودة، 2006).
ما يحيط بهنّ من ملكوت عائليّ، وخارج اجتماعيّ عصابي، يعزّز فيهنّ، حتى نهاية أعمارهنّ السينمائية، روحاً مخاصمة فرديّة، وجسارات لا ورع دينياً فيها، تساعدهن على تحقيق إنصافهن الشخصيّ، رغم إصراره دائما على تحاشي استكمال دوراته، كي يصل إلى طهارات غير مجتزأة، كما بدت عليه فاجعة مانويلا، في "كلّ شيء عن أمي" (1999)، وسعيها إلى كفارة عائلية، إثر موت ابنها أمام عينيها.
هنّ محكومات بتوازن اجتماعي غير منصف. ففيما يضمن قانون "واقع الحال" الحكومي الإسباني حقوقهن وحمايتهن، يكون "الداخل" العائلي صداميّا وعنفيا واستلابيا. عليه، تتحوّل بطلات ألمودوفار إلى كنايات إيديولوجية خفيّة، مغلّفة بإكسسوارات تهريجية، أقرب إلى ممثلات استعراضات "سيرك".
أفضل أمثلتهن: "كيكا" (1993)، وصويحباتها المندهشات بفقاعة سينمائية عند الجثة الحيّة لرامون. الحاسم، بحسب مواصفاته، أنهنّ لسن مناضلات سياسة، ولا متحزّبات دين. لسن عاهرات دائماً، أو عشيقات خاسرات بالفطرة.
وكما أنهنّ لا يعاقبن رجالهنّ بضربهم بالأحذية، أو يتحزّمن بالعفّة، أو يجاهرن بشبقهنّ كسلع رخيصة، فهن يطوّقن أنفسهن بذكورٍ، على قدر فاضح من رقّة الخواطر. أكثرهم مثليّون أو متخنّثون، يمتازون بجرأة وتحنّن، كرجلي "تكلَّمْ معها" (2002)، الأشهر في فيلموغرافيته. من هنا، تُسِنّ نساء ألمودوفار، اللواتي يجدهنّ "مذهلات كثيمات"، نعتاً سينمائياً غير مسبوق: "رجولة الأنثوية"، فتصبح "الجنوسة" (الجندر) موئل موازنة بين مكانات اجتماعية، وإعادة ترتيب تكافؤ بين جنسين، وغيرها.
جعلت هذه التناقضات، وأجواؤها ومغازيها ومفارقاتها، من سينما بيدرو ألمودوفار، صنعة نفيسة وغير قابلة للنسخ، في ما يخصّ ترفيهيتها، التي ميزته عن أقرانه الأوروبيين، وحرصها على مداراة متفرّجها بحكايات تهكمية، حول ثنائيات "الظافر والمسلوب"، حيث يرتكب فيها ذكورها خطاياهم، لتتحمل حريمها مغبات شقاء، وتصحيح ويلات. صوّرت مشهدياتها بتزويقية فذّة، وألوان متفجرة ومثيرة.
تستلف ممثلاتها أداءاتهن المفخمّة (أو غير المتجانسة) من نجمات أفلام كلاسيكية هوليوودية، منها رائعة الأميركي جوزيف ل. مانكويتز، "كلّ شيء عن إيف" (1950)، التي لمعت نسويتها في جديده "خولييتا"، المقتبس عن 3 قصص قصيرة للكاتبة الكندية أليس مونرو ("نوبل" للآداب، 2014)، نشرتها في مجموعتها "الهروب" (صدرت بالعربية عن دار "كلمات ـ هنداوي"، القاهرة، في العام نفسه).
في الفقرة الختامية لقصّة "الصمت"، وهي عماد سيناريو الفيلم، كتبت مونرو أن بطلتها جولييت "تتمنّى، كما يتمنّى الناس الأكثر حكمة، أن ينالوا نعماً لا يستحقونها، وغفراناً عفويّاً". في الفيلم، يتحوّل هذا المنال إلى تقصّ ذاتيّ حول نعمة ثالثة، ناقصة لدى خولييتا (إيما سواريز)، عنوانها الندم. هل استحقت عقاب اختفاء ابنتها، بسبب أنانيتها وارتكابها أخطاءها؟ ما الذي جعل الغياب "مجرّد أوهام"، كما أصرّت على إقناع نفسها، أيّ أن لا وجود فيزيولوجياً لها؟
هذه "كليشيه" (لا تنميط) عن غربة حداثية، ولعناتها. عن ارتحال ظنّي بين مكانين لن يلتقيا، رغم رابطتي دمّ ووجدان. إذْ أبقت مونرو حاجزاً بين قارئها وبطلتها حتى النهاية. عقّدت لغز اقترابها من ابنتها بحنكة راوٍ عليم، لم يرد كسر مخاتلات سرده. تصبح الـ "كليشيه" لدى ألمودوفار أكثر فعالية من كونها عاراً ميلودرامياً.
ذلك أن أزمنته السينمائية، التي حاكها بنشوة وفتنة لا تقاومان، مهّدت لتقمّصات مكرّرة وملتبسة بين والدة وابنتها (ممثّلتان بعمرين مختلفين)، وحالات عشق مزدوجة بين خولييتا وزوجها لاحقاً، الصياد شوان، قبل غرقه، احتجاجاً على غرامها بلورينزو، ما يدفع الابنة إلى اتّهام أمها بمقتل والدها.
تكون خولييتا، "ذات الوجه المألوف" حسب مونرو، عنواناً للأنانية والنزوة و"أفكار خاطئة"، التي (ربما) أثارت سقم أنتيا (بينيلوبي في القصة الأصلية)، وعجّلت بهروبها كي لا "تصبح مثلي". فيلم ألمودوفار استرجاع معياريّ ومتداخل ولولبي حول مصير واحد: مَنْ يكبو أسرع، أخلاق كائن أوروبي يخشى الاعتراف بنذالة سرائره، أم رغباته الحائرة والمبتورة؟
اللقاء العابر لخولييتا مع صديقة طفولة ابنتها، لن يكون مفتاح شروعها ببحث متأخر وحسب، بل يحرّضها على إعادة تدوير قدر، تقرّر إطلاقه ثانية من الشقة نفسها التي ولدت فيها "الغائبة"، وكادت تتخلّى عنها مهاجرة إلى البرتغال. تتمادى المرأة بهدايتها الشخصية، وهي تكتب رسائل اعترافاتها، فتؤكّد "فحولتها" الأنثوية، عبر استغنائها عن ذكرها/ عشيقها، وطمأنينة وجوده وتسيّده. وجدت رحماً عائلياً بديلاً، قد "يولّد" أنتيا أخرى جديدة، أو يستعيدها من نسيان.
نرى أنتيا، المتطامنة بدورها مع كينونتها العائلية، بعيداً عن شروط "الأمهات والكياسة وضبط النفس"، كما كتبت مونرو، فهي ملك جيل يمجّد حريته، وهي امرأة لا تقبل بانكسارها أو تعرّضها للغدر.