درستُ مبادئ اللغة العثمانية والتاريخ العثماني في مرحلة الماجستير في جامعة بريشتينا بيوغسلافيا السابقة، حيث كان التاريخ العثماني شاخصاً في مدن أو متاحف مفتوحة مجاورة مثل سكوبيه وسراييفو وبريزرن، ثم درّستُ التاريخ العثماني في جامعة اليرموك الأردنية بين 1989-1994 حين كانت تضمّ نخبة من المؤرخين من تركيا والعراق وسورية ومصر والأردن (انجي أكارلي، ولطفي عبد الوهاب، ودرويش النخيلي، وسيّار الجميل، وعلي محافظة، ومحمد صالحية، وغيرهم).
في ذلك الوقت، كان الاهتمام بالتاريخ العثماني يتزايد، وأصبحت في بعض أقسام التاريخ مادة خاصة تُسمّى عادة "تاريخ الدولة العثمانية" أو تدخل أحيانا ضمن "تاريخ العرب الحديث" الذي هو في الواقع تاريخ العرب الحديث خلال الحكم العثماني. مع هذا التوجّه، كان يتزايد الاستقطاب بين المتعصبين للدولة العثمانية وبين المتعصبين ضدّها، وهو ما دفعني إلى ترجمة كتاب المؤرخ المعروف خليل إينالجيك "تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار" الذي نُشر في بيروت وأصبح معتمداً في بعض الجامعات العربية.
صحيح أن الخلاف بين الطرفين كان يعبّر عن نفسه بكتب ودراسات ولكن كان يحمل الحد الأدنى من الجِدّة أو الجَدّية، بينما نجده الآن قد تهاوى إلى مستوى يناقش توصيف الحدث التاريخي بين "الفتح العثماني" و"الاحتلال العثماني" للمناطق التي امتدت فيها الدولة العثمانية شمالا نحو أوروبا وجنوبا نحو المشرق العربي.
كانت المشكلة أولا في المنهج، وبالتحديد في مصادر دراسة الدولة العثمانية، حيث كانت عوائق اللغة (التركية والعثمانية) وآلية عمل الأرشيف التركي تعيق معظم المعنيين بالتاريخ العثماني، ولذلك كان الاعتماد أكثر على المراجع الأوروبية (وخصوصا الإنكليزية والفرنسية) بكل ما فيها من توجهات أدّت إلى إنتاج صور نمطية عن الدولة العثمانية وعن السلطة العثمانية في البلاد العربية. ولكن سرعان ما انكسرت هذه العوائق وأصبح مركز الأرشيف التركي في إسطنبول يستقبل جيلا جديدا من الباحثين العرب، وهو ما بدأ ينعكس على صورة جديدة أقرب إلى الواقع الذي كانت عليه الدولة العثمانية.
ولكن المشكلة الآن أصبحت سياسية بامتياز، لأن ذلك الجيل الذي تشكّل وكتب ما كتبه ونشره أصبح الآن شبه صامت إزاء الكتّاب أو الكَتَبَة الذين يتصدّرون المشهد الإعلامي (الصحافي والتلفزيوني) ويصرّون على أولوية الأجندة الأيديولوجية والسياسية على الجهود البحثية التي لا تستجيب دائما لما هو مطلوب منها من فوق لدى الطرفين.
في الأردن، سُعدتُ بالتعرّف على زميل جديد سرعان ما أصبحنا أصدقاء على مدى عقود مع تنقّلنا من بلد إلى آخر: فاضل بيّات من عشيرة بيات المعروفة التي ينتمي إليها الشاعر الكبير فضولي البغدادي (توفي 1556). كان د. بيات قادماً من العراق وفتح أمامنا أُفقاً جديداً في التعامل مع الدولة العثمانية، حيث كان يُردّد في الجلسات والسيمنارات: لنعتبر الدولة العثمانية دولة احتلال مثل فرنسا في سورية ولبنان، فهل يمكن أن نكتب تاريخ الحكم العثماني أو الفرنسي بدون وثائق هذه الدولة أو تلك؟
في الواقع فتح د. بيات أُفقاً واسعاً لنا بتعريفنا على كنز من المعلومات حول الدولة العثمانية الذي كان يتمثل في "دفاتر المهمة"، التي كانت تدوّن فيها المسائل الواردة إلى الديوان الهمايوني أو السلطاني في إسطنبول، حيث كانت تُعرض وتُناقش ويصدر السلطان في ضوء ذلك أحكاما (أو أوامر) قاطعة للتنفيذ. كانت أهمية هذا الكنز تكمن في أنه يعرض واقع الحال في الولايات العثمانية من الأبيض إلى الأسود كما هو على الأرض دونما تظليل أو تجميل، ويستعرض المعطيات التي تدين عادة بعض الممارسات للولاة والقضاة والعسكر وتطالب بالتحقيق أو تنفيذ بعض العقوبات في حق المسؤولين.
ولم يكتف د. بيات بذلك بل دخل في مشروع العمر في إعداد وإصدار مجلدات من هذه الدفاتر المهمة التي تتعلق بالبلاد العربية، حيث بدأ من "مركز دراسات بلاد الشام" في "الجامعة الأردنية" بعمّان بإصدار ثلاثة مجلدات تحت عنوان "بلاد الشام في الأحكام السلطانية الواردة في دفاتر المهمة" ثم انتقل إلى إسطنبول للعمل في "مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية" (التابع لمنظمة التعاون الإسلامي) ووسّع مشروع العمر بإصدار ثمانية مجلدات تحت عنوان "البلاد العربية في الوثائق العثمانية"(المجلد الأخير عن الجزائر في القرن السادس عشر). ومع هذا الجهد الجبار يُطرح السؤال: مَن اطّلع واستفاد من هذه المجلدات عند الكتابة عن الحكم العثماني في البلاد العربية مِن أولئك الذين يتقدمون الصفوف حاليا للكتابة عن الحكم العثماني في البلاد العربية؟
تذكّرتُ الآن د. بيات وأنا أشتغل مع بعض الزملاء في عمل مشترك (مقاربات بلقانية عن القدس خلال الحكم العثماني) يضمّ مجموعة من الأبحاث لمؤرخين من صربيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفو، تكشف عن جوانب غير معروفة للعلاقات بين سكان البلقان، مسيحيين ومسلمين، مع القدس باعتبارها "الأرض المقدسة" للطرفين. تذكّرتُ د. بيات عندما عثرت على حكم سلطاني من "دفاتر المهمة" يعود إلى عام 1181هـ/ 1767م ويتعلّق بجانب غير معروف للعلاقة بين المسيحيين في غرب البلقان بالتحديد وبين بطريركية القدس للأرثوذكس، وقدّرتُ كم هو مهم نشره في هذا الكتاب المشترك الجديد.
وتجدرُ الإشارة هنا إلى أن العلاقة بين المسيحيين في البلقان والقدس قديمة وسابقة للحكم العثماني ولكنها استمرت أيضا طيلة الحكم العثماني الذي استمر أكثر من 400 سنة عبر حجّ المسيحيين والمسلمين إلى القدس، وما تمخّض عن ذلك من كتب رحلات وأدب مستلهم من "الأرض المقدسة". ولكن ما يعنينا هنا هو الجانب الآخر المهم الذي تكشف عنه هذه الوثيقة من "دفاتر المهمة". فبسبب هذا التعلّق بالقدس كان بعض المسيحيين القادرين في غرب البلقان يوصون ببعض ثروتهم أو يوقفون شيئاً منها على "رهبان القدس"، ولذلك كان بطريرك القدس يرسل كل سنة وكيلاً عنه مع بعض الرهبان يطوفون في مناطق المسيحيين في البلقان لجمع "الصدقات"، كما كانت تسمّى الوصايا والأوقاف المخصّصة لـ "رهبان القدس".
ولكن يبدو من الوثيقة التي تتضمن شكوى من بطريرك القدس إلى السلطان العثماني أن بعض الرهبان المحلّيين كانوا يبتزون المسيحيين لجمع الأموال منهم لـ "رهبان القدس" مع أنهم لا يحملون أي توكيل من بطريرك القدس، ولذا يطلب من السلطان أن يتم اعتماد فقط أولئك الذين يحملون توكيلاً ممهوراً بختمه. وإلى جانب ذلك، تشير الوثيقة إلى ممارسات سلبية أو غير قانونية لبعض المسؤولين العثمانيين في الولايات إزاء الرهبان القادمين من القدس خلال عبورهم من مكان إلى آخر، حيث كانوا يطلبون منهم دفع جمارك مع أنهم لا يحملون ما يستحق دفع جمارك ويبتزونهم أحياناً باسم الجزية. ولذلك، يُصدر السلطان حكماً شديد اللهجة يأمر فيه القضاة أو الحكّام الشرعيين في غرب البلقان بأن يتحقّقوا من الذين يأتون لجمع "الصدقات" لـ "رهبان القدس" واعتماد من يحمل توكيلا من بطريرك القدس فقط، ويمنع المسؤولين من أي تدخل في شؤون هؤلاء مع التهديد بعقوبات ضدّهم.
وبالنسبة لخريطة انتشار المسيحيين الذين تشملهم هذه الوثيقة، نجد أن هذا الحكم السلطاني كان موجّهاً إلى قضاة سراييفو ونوفي بازار وسكوبيه وبريشتينا وبريزرن وغيرها، أي التي تشمل الآن عواصم البوسنة ومقدونيا الشمالية وكوسوفو وأجزاء من صربيا وألبانيا.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري