في الأعوام القليلة الأخيرة تحديدًا، ظهر ميل في السينما الأميركية إلى التعامل مع فكرة "العيش في الطبيعة" بشكل رومانسي يفتقد الواقعية، كردّ فعل حادّ، ربما، على شكل الحضارة المعاصرة، وذلك في أفلام كـ(Into The Wild (2007 لشون بن، و(Captain Fantastic (2016 لمات روسّ.
للوهلة الأولى، يبدو (Leave No Trace (2018 لديبرا غرانيك منتميًا إلى ذاك النوع من الأفلام، حيث الخضرة والطبيعة والعيش في سلام من دون عقبات. لكن، مع تقدّم أحداث الفيلم وتطوّر شخصياته، ينكشف أن جوهره أبعد من ذلك بكثير، حيث الدراما عميقة وصادقة بتناولها علاقة أب بابنته، وبطرحه أسئلة عدة (لم تتمّ الإجابة عليها) عن العائلة، وإلى أي مدى تسمح محبتنا للقريبين منا بأن نختار لهم (بدلاً من أن يختاروا هم لأنفسهم)، حتى لو أنّ الدافع حمايتهم؟
ينتقل الفيلم في 3 مراحل واضحة، في كلّ واحدة منها جزء مختلف من شكل الطبيعة والمجتمع والعلاقة بالناس. بداية، يظهر الأب ويل وابنته المراهقة توم وهما يعيشان في غابة عملاقة في ولاية "أوريغون"، منفصلين، بشكل شبه تام، عن العالم المتحضّر في الخارج، وهذا قبل القبض عليهما، باعتبارهما مُشرَّدين، فتجبرهما الحكومة (بهدف الرعاية والمساعدة) على الإقامة في منزل، وتفرض على ويل العمل في وظيفة قاطع أشجار الـ"كريسماس"، في تناقض (ساذج حقيقةً) بين ما كان عليه وما يُجبره المجتمع على أن يكون عليه.
يتجاوز الفيلم تلك العثرة في فصله الـ3، مع هروب ويل وتوم من "العالم الحضاري" كي يعيشا حياتهما كما كانت عليه سابقًا، ويجدان مساحة وسطى يتفاعلان فيها مع آخرين، فتظهر أزمة أكبر، ويُطرح سؤال أدقّ عن علاقة أب مأزوم وزاهد في الناس والحياة، بابنة لا يزال العمر أمامها، وتريد أن تعيش وتختبر كلّ شيء.
في أحد أجمل المشاهد، تأخذ توم أباها إلى خلية نحل، كشفتها لها امرأة عجوز قابلتها في الطريق. تخبره أنه لن يموت "إلّا بعد 500 لدغة"، ثم تمسك النحل بيديها بمحبة، وتنظر إليه قائلة: "أرأيت؟ لن يؤذيك شيء". ورغم المباشرة في معنى الحوار، إلّا أنه يحدث بشاعرية صادقة، ملتقطًا كلّ شيء عن تلك العلاقة والشخصيات.
لا أحد يعرف ما حدث في ماضي ويل، وما جعله راغبًا في العزلة والابتعاد إلى هذا الحدّ، لكنّ هناك إدراكاً بمدى ثقل هذا الماضي وضخامته، وهناك تفهّم له، كتفهّم توم حين تخبره ابنته أنها تعلم بأنه سيبقى لو أنه يستطيع. لكن هذا التفهّم لا ينفي تعارض الخيارات والرغبات، ولا يغير من رغبة توم في التفاعل والعيش واختبار الحياة بطريقتها، لا بغطاء الحماية السميك الذي صنعه والدها لها.
ببلوغ الفيلم نهايته، يكون قد تجاوز فعلاً معضلة "الطبيعة والعالم الحضاري" الذي بدأ منه، ويكون عمقه واضحًا وجليًا، ويمكن مدّه على أي علاقة بين أب وابنته، أو عائلة وأطفالها.
مع هذا السيناريو الهادئ والمُنساب، ذي الجمل الحوارية المحدودة، وشريط الصوت الذي يكاد يلتقط دبيب النمل في تلك الطبيعة الشاسعة؛ احتاجت ديبرا غْرانيك ـ في أول فيلم روائي لها منذ (Winter’s Bone (2010 المُرشَّح لـ"أوسكار" ـ إلى أداء تمثيلي كبير من بطليها، لنقل المشاعر والأثقال والأفكار كلّها التي يحملها ويل وتوم، من دون كلام، وقد منحها بن فوستر والممثلة النيوزيلندية المراهقة توماسين ماكينزي أكثر مما يتمناه المرء. ففوستر في أفضل أداء سينمائي له، وهو قادر في كل لحظة على جعل المُشاهد يتلمّس معاناته الداخلية ويتعاطف معها، رغم أنانية يُظهرها أحيانًا. عيناه تنطقان بكلّ شيء، تحديدًا في الربع الأخير من الفيلم. أما ماكينزي، فهي مفاجأة استثنائية، بإدراك وتفهّم بديعين لأبعاد شخصية توم، بين حياتها البرية وفضولها نحو الناس وقلقها منهم في آنٍ واحد، ومحبّتها المفرطة لأبيها، وفي الوقت نفسه رغبتها في التفلّت، لأن "ما تعانيه أنت لا أعانيه أنا"، كما تخبره في أحد أرق المَشاهد.
النتيجة؟ اثنان من أفضل الذين قدّموا أداء تمثيليًا في أحد أفضل أفلام عام 2018. سيكون محبطًا جدًا إذا لم يُرشَّح Leave No Trace لـ"أوسكار" 2019، أقلّه في فئتي التمثيل والسيناريو.
ينتقل الفيلم في 3 مراحل واضحة، في كلّ واحدة منها جزء مختلف من شكل الطبيعة والمجتمع والعلاقة بالناس. بداية، يظهر الأب ويل وابنته المراهقة توم وهما يعيشان في غابة عملاقة في ولاية "أوريغون"، منفصلين، بشكل شبه تام، عن العالم المتحضّر في الخارج، وهذا قبل القبض عليهما، باعتبارهما مُشرَّدين، فتجبرهما الحكومة (بهدف الرعاية والمساعدة) على الإقامة في منزل، وتفرض على ويل العمل في وظيفة قاطع أشجار الـ"كريسماس"، في تناقض (ساذج حقيقةً) بين ما كان عليه وما يُجبره المجتمع على أن يكون عليه.
يتجاوز الفيلم تلك العثرة في فصله الـ3، مع هروب ويل وتوم من "العالم الحضاري" كي يعيشا حياتهما كما كانت عليه سابقًا، ويجدان مساحة وسطى يتفاعلان فيها مع آخرين، فتظهر أزمة أكبر، ويُطرح سؤال أدقّ عن علاقة أب مأزوم وزاهد في الناس والحياة، بابنة لا يزال العمر أمامها، وتريد أن تعيش وتختبر كلّ شيء.
في أحد أجمل المشاهد، تأخذ توم أباها إلى خلية نحل، كشفتها لها امرأة عجوز قابلتها في الطريق. تخبره أنه لن يموت "إلّا بعد 500 لدغة"، ثم تمسك النحل بيديها بمحبة، وتنظر إليه قائلة: "أرأيت؟ لن يؤذيك شيء". ورغم المباشرة في معنى الحوار، إلّا أنه يحدث بشاعرية صادقة، ملتقطًا كلّ شيء عن تلك العلاقة والشخصيات.
لا أحد يعرف ما حدث في ماضي ويل، وما جعله راغبًا في العزلة والابتعاد إلى هذا الحدّ، لكنّ هناك إدراكاً بمدى ثقل هذا الماضي وضخامته، وهناك تفهّم له، كتفهّم توم حين تخبره ابنته أنها تعلم بأنه سيبقى لو أنه يستطيع. لكن هذا التفهّم لا ينفي تعارض الخيارات والرغبات، ولا يغير من رغبة توم في التفاعل والعيش واختبار الحياة بطريقتها، لا بغطاء الحماية السميك الذي صنعه والدها لها.
ببلوغ الفيلم نهايته، يكون قد تجاوز فعلاً معضلة "الطبيعة والعالم الحضاري" الذي بدأ منه، ويكون عمقه واضحًا وجليًا، ويمكن مدّه على أي علاقة بين أب وابنته، أو عائلة وأطفالها.
مع هذا السيناريو الهادئ والمُنساب، ذي الجمل الحوارية المحدودة، وشريط الصوت الذي يكاد يلتقط دبيب النمل في تلك الطبيعة الشاسعة؛ احتاجت ديبرا غْرانيك ـ في أول فيلم روائي لها منذ (Winter’s Bone (2010 المُرشَّح لـ"أوسكار" ـ إلى أداء تمثيلي كبير من بطليها، لنقل المشاعر والأثقال والأفكار كلّها التي يحملها ويل وتوم، من دون كلام، وقد منحها بن فوستر والممثلة النيوزيلندية المراهقة توماسين ماكينزي أكثر مما يتمناه المرء. ففوستر في أفضل أداء سينمائي له، وهو قادر في كل لحظة على جعل المُشاهد يتلمّس معاناته الداخلية ويتعاطف معها، رغم أنانية يُظهرها أحيانًا. عيناه تنطقان بكلّ شيء، تحديدًا في الربع الأخير من الفيلم. أما ماكينزي، فهي مفاجأة استثنائية، بإدراك وتفهّم بديعين لأبعاد شخصية توم، بين حياتها البرية وفضولها نحو الناس وقلقها منهم في آنٍ واحد، ومحبّتها المفرطة لأبيها، وفي الوقت نفسه رغبتها في التفلّت، لأن "ما تعانيه أنت لا أعانيه أنا"، كما تخبره في أحد أرق المَشاهد.
النتيجة؟ اثنان من أفضل الذين قدّموا أداء تمثيليًا في أحد أفضل أفلام عام 2018. سيكون محبطًا جدًا إذا لم يُرشَّح Leave No Trace لـ"أوسكار" 2019، أقلّه في فئتي التمثيل والسيناريو.