"أشاهد هذا الفيلم معكم للمرة الأولى"... هكذا قدّم المخرج عز العرب العلوي فيلمه "دوار البوم" (2018)، في الدورة الـ19 (9 ـ 17 مارس/ آذار 2018) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة". الفيلم معروض منذ 15 يوماً. لكن المخرج يكشف، علناً، أنه حذف 17 دقيقة منه. بعد التعديل، قلّتْ الأدعية في الحوارات، وقَوِيَ تماسك السرد عن المغرب في منتصف سبعينيات القرن الـ20. فمنذ عرضه الأول ذاك، يُثير الفيلم جدلاً، لأن السجناء لم يظهروا فيه، فالسلطة أرسلتهم إلى مغربٍ "غير نافعٍ"، لا تصل الكاميرات إليه.
أما الحكاية، فهي:
في منطقة قاحلة، جنوبي شرق المغرب، تحوّلَتْ قلعة قديمة إلى سجنٍ سرّي. هذا أنكره الملك الحسن الثاني (1929 ـ 1999). لكن منظمات حقوقية ووسائل إعلامية دولية كشفته. أفرج الملك نفسه عن المعتقلين، الذين حصلوا على تعويضات مالية. لم يصوِّر الفيلم هذا الجذر. اتُّهم بأنه بدَل تصوير السجّانين أشراراً بالمطلق، قام بأنسنتهم، وغيَّب المناضلين. تدخل الممثل حسن باديدا (السجّان) مُصحِّحاً: "الانقلاب العسكري ليس نضالاً".
لاحتواء الجدل، تواصل عز العرب العلوي مع المعتقلين السابقين، المشاركين في محاولة الانقلاب، الذين احتكروا الشرعية النضالية بعد الإفراج عنهم. عُقدت مصالحة، وتوقف الجدل الذي وفّر دعاية إعلامية مجانية مبكرة للفيلم. عادةً، حين يُفسِّر المخرج فيلمه، يحوِّل الأنظار عنه إلى شخصه، وهذا ليس في مصلحة الدعاية للفيلم. كلّ فيلم "قوي" يدافع عن نفسه بنفسه. غالباً ما يظهر بين المتفرّجين مدافع عنه، بطريقة أقوى وأعمق من مخرجه. هذا ما حصل، فعلاً، بعد العرض الثاني. أفضل ردّ يقوم به المخرج؟ الاستمرار في صناعة الأفلام. نظراً إلى خبرته وإمكاناته، لا يستحق العلوي شروطاً تخفيفية في نقد عمله. فالمقارنة بين نسختي الفيلم توضح أنه تصالح مع المعتقلين السابقين، من دون تعديل وجهة نظره. لم تنعكس "ودّية" الجلسة على الفيلم.
في محيطٍ طبيعي مُقفر، يحصل حرّاس السجن على نقود، يحتاجون إليها لينفقوها على ما يريدون. هناك قاعدة عسكرية ("قشلة" بالأمازيغية)، يتشكّل ـ قريباً منها ـ حيّ صغير، تكون الدعارة أحد أعمدته. حتى المدينة، بالأمازيغية، صارت تسمّى "قشلة".
فضاء أصفر قاحل. شخصيات بملابس سوداء تبدو صغيرة كحشرات من فرط اتّساع المكان. وجوه متجهّمة. أرواح داكنة، تحاول الصمود. صوت رشيدة طلال ينوح على المشهد، ويمنحه أبعاداً حزينة عميقة.
تساعد وحدة الزمان والمكان والحدث في تماسك الأحداث. واضحٌ أن هذه القاعدة، التي وضعها أرسطو للسرد، لا تزال فعّالة، رغم محاولات التجريبيين تحطيمها. قاعدة صامدة، لأنها تراعي قوانين التلقّي لدى المتفرّج.
"دوار البوم" فيه تكثيف فني. موضوعه، السياسي والإنساني، كبير. لكن ارتفاع الصوت يحرم المتفرّج من لحظات صمت، تُعينه على هضم ما يراه. خاصة حين تصرخ الشابة في الماء، قبل الأوان.
قدّم الفيلم تشكيلة متنوّعة من الممثلين: أمين الناجي، الذي يُؤكّد، فيلماً بعد آخر، أنه ممثل كبير، في حركاته وسكونه. فاطمة هراندي (راوية) مُقنعة في أدائها، كأنها تعيش في حانة منذ الأزل. حسن باديدا مُدهشٌ وقوي ومُعدٍ بمشاعره. اكتشفته السينما المغربية متأخّرة. كمال الكاظمي في أهم دور سينمائي له. هو نجم تلفزيوني مشهور بالمُبالغة في الأداء، عبر مَطّ شفتيه، وتغيير صوته. تحسّن أداؤه، لكنه لا يزال "ينفخ" ليقول إنه ساخط وغاضب.
"دوار البوم" صعبٌ، عن مرحلة صعبة، من دون خطابة. يُرْوَى بعين طفل مولود في منطقةٍ، كانت السلطة تعتبرها مكاناً للعقاب. كلّ موظف ارتكب خطأ ما في العاصمة، "ترمي به الحكومة فيها". هناك قلاع عسكرية كثيرة، لا أحد يعرف ما فيها. يروي الطفل يوميات منطقة عسكرية: "كان يا ما كان، في منطقة قاحلة جنوب شرق المغرب، طفل في مواجهة قلعة. عين طفل خلف جدار، خلف قصب، خلف جسر". هكذا بدأ الفيلم عن طفلٍ يعيش في محيط القلعة.
لماذا لم يظهر المعتقلون؟ يقوم الطفل الشاهد بتبئير خارجي. التبئير تضييقٌ في حقل الرؤية، بحسب جيرار جينيه، أي عملية انتقاء للمعلومات السردية التي تسمح بها الوضعية ("خطاب الحكاية" لجينيه، ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي ومحمد معتصم، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط. 2، 1997، ص. 200). من موقع الطفل، لا يظهر ما يجري داخل القلعة. هذا تقييد لحقل الرؤية. لا تمارِس الكاميرا التبئير من الدرجة صفر. لا تشبه سارداً له علم شامل، بل لها عين المدرسة السلوكية، وهي تكتفي بمظاهر السلوك القابلة للملاحظة.
أين يتفق السلوكي مع التبئير الخارجي؟ يجيب جينيه أن التبئير الخارجي يُقصي كلّ تدخل للسارد، الذي يكتفي بترك القصة "تروي نفسها بنفسها". يسود التبئير الخارجي لأن المخرج يخفي سراً. من هنا، تنبع وجهة النظر.
من وجهة نظر تقليدية للسارد العالِم، يؤدي غياب المعتقلين إلى خلط دوري الظالم والمظلوم، أحدهما بالآخر. لكن ظهور المعتقلين كان يُمكن أن ينسف الحبكة. غيابهم سبب صدمة الفقيه والحارس، وسبب تسريب الوثيقة. هنا تنبع قوّة الفيلم. من وجهة نظر مقيَّدة، تسمح للمتفرّج بتخيّل ما يجري خلف الجدران السميكة التي يحدّق فيها الطفل. عندها، لم يكن المعتقلون أنفسهم يعرفون مكانهم، وقد عرفوه بعد أعوام طويلة على سجنهم.