في مكان ناءٍ في نيويورك، تقيم "صالة جولي سول"، معرضاً تحت عنوان "رؤى جديدة/ جيل جديد"، يزاوج بين أستاذين شهيرين من أساتذة فن التصوير الفوتوغرافي، وبين فنانين شابّين استلهما فن هذين الأستاذين. يستمر المعرض الذي بدأ في الثاني من هذا الشهر حتى الثالث من شباط/ فبراير القادم.
اللافت للنظر في هذا المعرض النائي، في نصف الكرة الأرضية الغربي، ليس المكان بالطبع، بل المزاوجة بين عوالم متباعدة جغرافياً ومتآلفة إبداعياً، وجدّة هذه التجربة في عالم التصوير الفوتوغرافي، والمبدأ الذي انطلق منه؛ تسليط الضوء على تأثير الماضي على الحاضر.
في هذا المعرض نجد الملهم الأول لازلو موهولي-ناغي، الرسام والمصور الفوتوغرافي الهنغاري (1895- 1946) المعروف بنزعته البنائية ودفاعه عن تكامل بين الصناعة والتقانة والفنون، وعمله أستاذاً في مدرسة الفنون الألمانية الشهيرة المسماة "باوهاوس"، أي بيت البناء، تلك المدرسة التي أسسها المعماري والتر غروبيوس في "فايمار"، وظلت قائمة بين عامي 1919 و 1933. امتياز هذه المدرسة يكمن في أنها أوجدت تركيباً جامعاً بين الفنون الجميلة والحرف، وقامت شهرتها على مقاربة متميزة للتصميم وتعليمها ونشرها على نطاق واسع.
كانت مساهمة لازلو في هذه المدرسة، بالإضافة إلى الدروس التي ألقاها، تقديمه لتجارب في التصوير الفوتوغرافي في الـ"باوهاوس"، ثم مواصلة تجاربه في شيكاغو، في "معهد إلينوي التقاني". وانتشرت "رؤاه الجديدة" على نطاق واسع بعد الحرب العالمية الثانية عبر التعليم، وتواصل انتشارها حتى الزمن الراهن.
قامت مخططاته الفوتوغرافية المبتكرة على أساس وضع مواد متنوعة على ورق التصوير الفوتوغرافي مباشرة، ثم معالجة الورقة ضوئياً وتثبيت المواد لإبداع تكوينات فريدة من نوعها، غامضة ومثيرة للعاطفة. من هذه الأعمال، يقدم المعرض مجموعة نادرة ترجع إلى عشرينيات القرن الماضي.
الأستاذ الملهم الآخر هو لويجي غيرّي (1943- 1992)، إيطالي الجنسية معروف أنه غيّر وجهات النظر الأوروبية بشأن التصوير الفوتوغرافي مع مطلع سبعينيات القرن العشرين، وكان رائداً في استخدام شفافية اللون والمزج بين ما هو وثيقة وما هو فكرة.
في العام 1978 نشر أول كتاب له على شكل بيان طليعي عن طبيعة فن الفوتوغرافيا كوسيط هدفه الحفاظ على قدرة الإنسان على الرؤية. وتعتبر أعماله وسائل بالغة القوة لتثقيف النظر. يقول بعض من كتب عنه إن "أعماله تغيّر من إدراكنا للعالم من دون أن توحي لنا بمسار وحيد نسير فيه، بل توفر لنا وسائل نحتاجها لنجد طريقنا الذي نبحث عنه".
اشتهر هذا الأستاذ في وطنه، ولم يعرف على صعيد عالمي إلا في وقت متأخر مع نشر أول كتاب عنه بالإنكليزية تحت عنوان "إنها جميلة هنا.. أليس كذلك؟" (2008). وتبيّن أنه كان مشاركاً في ما عرف باسم حركتي اللون الجديد والتصوير الطوبوغرافي قبل أن تتخذ هاتان الحركتان هاتين التسميتين. ولم يفصل، شأنه في ذلك شأن نظرائه في السينما الإيطالية، بين المحلي والعالمي، وأن أقطاب الحياة؛ الحب والكراهية، والماضي والحاضر، لهما الفتنة الآسرة ذاتها.
إذا جئنا إلى الجانب الآخر من المرآة، نجد لدينا أعمال المكسيكية آليخاندرا لافيادا المولودة في العام 1984، وهي تتبع مبدأ "لازلو موهولي-ناغي" الذي عبّر عنه في أحد منشوراته عن شريط التصوير الفوتوغرافي في العام 1923، والقائل إن على كل عمل فني إيجاد وسيطه المناسب، والفوتوغرافيا التجريدية هي الوسيط الذي يعنيه بالنسبة له.
في سلسلة عمل من أعمالها المسماة "الهندسة الفضائية" تبتدع هذه الفنانة فضاءات عميقة السواد تشبه بنية وغموض مخططات "لازلو" الفوتوغرافية. في هذه السلسلة تستخدم مواد بناء متخلفة ومهملة تتضاعف مظهرياً بوساطة عدسة التصوير، وتشكل تكوينات تجريدية بالغة القوة.
الشابة الأخرى التي تعرض أعمالٌ لها في هذه المزاوجة، وفي تجسيد استمرار الماضي في الحاضر حسّياً، هي الألمانية أندريا كروتزنر المولودة في العام 1980. هذه الفنانة جاء تعبيرها عن نفسها عن طريق موضوعات معمارية، في ما يشبه استعادة ذاكرة الـ"باوهاوس" بنقاء ألوانها وبساطة خطوطها التجريدية، ونزعة المزج بين جماليات العمل الفني ووظيفته في الحياة اليومية.
وتوفر سلسلة أعمالها المسماة "بيت الضيافة"، كما يوفر كتابها المعنون "الزاوية" (2016)، هويتها كمصورة فوتوغرافية مقيمة في مدينة كوبلنس الألمانية، المدينة التي تعرضت لدمار هائل خلال الحرب العالمية الثانية. هذه المدينة وفرت لها فرصة نادرة ومهمة للمجاورة بين موادها وعمائرها القديمة والجديدة.
وتضمّن اهتمامها هذا إدراكاً للمكان والمباني التاريخية والصروح التذكارية والمثيرات البصرية، المألوف منها وغير المألوف في وقت واحد معاً. وفي ضوء منجزاتها ومخططاتها يبدو أنها تتنقل بين وسائط مختلفة، فتستخدم الفوتوغرافيا كما تستخدم الرسم وفن التصوير بتجميع القصاصات.
أخيراً، يشير هذا المعرض إلى مدى تقدم وتطور فن التصوير الفوتوغرافي في العالم، خاصة وأننا نقرأه على خلفية بطء تطوره في البلدان العربية التي عرفت وتعرف تجارب رائدة في هذا المضمار، لكن، شأنه شأن بقية المجالات الفنية والأدبية في الحياة العربية الراهنة، لم يمتلك ما يمكن أن نسميه استمرارية الماضي في الحاضر، بحيث يمكن إيجاد تزاوج بين رؤى الأجيال على صعيد واحد أو في صالة عرض واحدة، بل تولت شؤون أفراده وتجمعاته تنافرات وانقطاعات بين الأزمنة والأمكنة.