لم يخطر في بال الكوري الجنوبي بونغ جون ـ هو (1969)، عند مشاركته بـ"أوكجا" في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، أنّه سيتوَّج بعد دورتين بـ"السعفة الذهبية" عن "طفيليّون". هو ليس وافدًا جديدًا على المهرجان. دخل "كانّ" من بوابة "نظرة ما"، التي اختارت له، منذ عام 2006، 3 أفلام، آخرها "أم" (2009)، فيلم دراما وجريمة.
لفت "أوكجا" انتباه عشّاق هذا النوع من الأفلام، لإنسانيته وبراعة تنفيذه، لكنه لم يَفزْ بأية جائزة. رغم هذا، أثار، مع "حكايات مَيَروفيتز" لنواه بومباخ، مشكلة أفضت إلى حرمان المنصّة الأميركية "نتفليكس" (مُنتجة الفيلمين) من مشاركة أفلامها في الدورات اللاحقة للمهرجان، حتى إشعار آخر.
في "طفيليّون"، يؤكّد بونغ جون ـ هو أنه يستطيع، بسهولة واحترافية، التنقّل بين الأنواع السينمائية من دون مشقّة، وحتّى في الفيلم الواحد نفسه. في جديده، يتنقّل بمهارة بين أكثر من نوع سينمائي. الفيلم يتجاوز فعليًا حدود التصنيف، بمزجه البارع بين الكوميديا بدرجاتها والدراما بألوانها، مُضيفًا إليهما الميلودراما، أحيانًا. كذلك، هناك حضورٌ للرعب والإثارة والقتل. فيه تحوّلات وصدمات وانقلابات، تحرّض على الترقّب والتفكير، وتبديل وجهة النظر إلى نقيضها. يسبق التشويقُ هذا كلّه، فالفيلم ممتع ومُشوّق للغاية، رغم الدراما القاتمة والقاسية.
"طفيليّون" درس سينمائي بامتياز، في كيفية التقديم المشوّق والمكثّف لموضوع عادي جدًا، ومُعالَج بكثرة. يتجلّى الدرس، كتابةً ومهارة وحِرفة، في كيفية تقديم ما سبق استهلاكه بطريقة جديدة مُشوِّقة وغير مُباشرة، تتّسم بالصدق والابتكار.
والأدهى كامنٌ في صبّ هذا كلّه في إطار كوميدي بالغ الطرافة. يتناول الصراع الطبقي بتناقضاته كلّها. الحبكة ليست جديدة لا في السينما عمومًا، ولا في سينما كوريا الجنوبية خصوصًا، رغم حداثتها النسبية. فـ"إحراق" (2018) للي تشانغ ـ دونغ، الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريسي)"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ"، يعاين الصراع الطبقي أيضًا.
غي ـ تايك (سونغ كانغ ـ هو) أبٌ مفلس وعاطل عن العمل. محتالٌ، يفعل أيّ شيء ليحصل على مالٍ، وليُرضي زوجته ويُسكتها. الأم تشونغ ـ سوك (يانغ هاي ـ جين) شبه مُتسلّطة. عاطلة عن العمل هي أيضًا، وتكافح لتدبير نفقات المنزل. الفرص الحياتية، عمليًا ودراسيًا، للابن الأكبر كي ـ وو (تشوي وو ـ سيك) محدودة جدًا. الابنة الصغرى الذكية، كي ـ جونغ (بارك سو ـ دام)، لا تعمل ولا تدرس، ولا مستقبل لها. تعيش الأسرة في شقّة متواضعة جدًا، أسفل إحدى البنايات، في حيّ شعبي بائس ومكتظّ. يطلّ الخارج عليهم عبر نافذة صغيرة على مستوى الشارع، تجلب لهم كلّ ما لا يُطيقونه. تمارس العائلة الهامشيّ والمتقطّع في الحياة، وأعمالاً غير مُربحة.
من اللقطة الأولى، تظهر طبيعة العائلة: تفقد شبكة "إنترنت"، لأن الجار غيّرها. لكنها تعثر على شبكة أخرى عند جار آخر، وهذا مشهد مُضحك، لأن الشبكة تعمل فقط فوق المرحاض، في الحمّام. هذا خير افتتاح لتقديم الأسرة وسلوكها، ما يُشير إلى طبقة كاملة أيضًا.
صديق الابن الأكبر يُسافر إلى أميركا، بعد تزكيته لدى السيّد بارك (لي سون ـ كين)، أحد أغنى رجال الأعمال، لتدريس الإنكليزية لابنته. عائلة بارك مؤلّفة من يِوون ـ غيو (تشو يو ـ غيونغ)، الزوجة الجميلة والفارغة، ودا هاي (يونغ زيسو) الابنة المُراهقة شبه البلهاء. لدى الزوجين طفل مُصاب باضطراب نفسي، يرسم لوحات غريبة، يُدعى دا ـ سونغ (يونغ هيون ـ جون). بمساعدة شقيقته، واستنادًا إلى مهارته، يزوِّر كي ـ وو شهادات جامعية من أكسفورد وغيرها، فتنطلي حيلته على الأسرة الثرية، ويبدأ العمل عندها. هذا التزوير بداية، فالخداع لن يتوقف عند هذا الحدّ.
بدوره، يُرشِّح كي ـ وو شقيقته للاهتمام بدا ـ سونغ. معها "شهادات" في الفن وعلم النفس. يهتمّ بها الطفل. تنال إعجاب والديه. لاحقًا، تجتهد للتخلّص من السائق، فتوقعه في شركٍ أخلاقي، كي تُرشِّح لبارك سائقًا ماهرًا آخر، سيكون والدها. يتكرّر الأمر نفسه مع مدبّرة المنزل، التي تخدم الأسرة منذ أعوام. يتمكّن هؤلاء من تحقيق مبتغاهم، بفضل حيلة خبيثة: إنها مُصابة بالسلّ. تأتي الأم. هكذا تُحكم عائلة غي ـ تايك خناقها على عائلة بارك.
هناك استمتاع بالطرافة والحيل الخبيثة، وإعجاب ببراعة الخدع المُحكمة بإتقان شديد، والتي يُمارسها أفراد عائلة غي ـ تايك. في المقابل، فإنّ أسرة السيد بارك ساذجة وغير مكترثة، وربما غبيّة. لذا، تنطلي الحِيَل عليها بسهولة شديدة. هذا يؤكده غي ـ تايك ضاحكًا وغير مُصدّق: "الأثرياء ساذجون جدًا". أسرة السيّد بارك لا تكتشف ولا تشكّ في أنّ هؤلاء جميعهم أبناء أسرة واحدة. بصرف النظر عن بلاهة الأسرة، وتصديقها لما يحدث، يصعب أخلاقيًا عدم استهجان سلوك احتياليّ كذاك الذي تتمتّع به أسرة غي ـ تايك.
النصف الثاني من "طفيليّون" قاتم وسوداوي، وإنْ تدريجيًا. تحدث انقلابات، تُثير تفكيرًا عميقًا وتراجعًا كبيرًا عن الإدانة الكلّية للسلوك المُستهجن للأسرة المحتالة. هناك استدراج تدريجي إلى فخّ يصنعه المخرج، فالمسألة أعمق من أسرة تحتال على أخرى، ومن فرص عمل تُنتَهز، ومن بحثٍ عن لقمة عيش بصرف النظر عن السبل. عندها، يحفر الفيلم عميقًا، بخفّة وسلاسة، في السياسي والاجتماعي والاقتصادي والطبقي والنفسي.
يتجلّى هذا مع سفر أسرة السيّد بارك، فتستغل أسرة غي ـ تايك الفرصة للاستفادة من المنزل، وإنْ لساعات قصيرة، لاختبار عيشِ حياةِ نعيمٍ ورفاهية. التصميم اللافت للمنزلين يظهر بونًا شاسعًا بين الأسرتين، فتنتفي المقارنة بين الطبقتين. باختصار، تبرز وتتأكّد تناقضاتٍ كرَّسها السيناريو (بونغ جون ـ هو وهان جين ـ وو) بمهارة باهرة. لكن الانقلاب لن يتمثّل بالعودة المفاجئة لأسرة السيّد بارك، بل بوصول مدبّرة المنزل السابقة، لأنها "نسيت ما هو ثمين، وتريد استرداده"، كما تقول. "الثمين" هو زوجها الهارب من الديون والفقر، والمُقيم في قبو المنزل منذ أعوام. تركته من دون ماء أو طعام، بعد طردها من العمل. عندها، يبدأ فصل آخر، غير مُتوقّع نهائيًا، يصل إلى ذروة لم تكن محسوبة، فتضيف إلى صراع الطفيليّين والأغنياء صراعًا آخر بين الطفيليّين أنفسهم.
هناك تذكير دائم بأنّ الفجوة بين الفقراء والأغنياء لا يُمكن ردمها. لكن الخطورة ليست هنا، بل في سؤال: من سيفوز في الصراع الدموي للطبقات: الأغنياء أم الفقراء؟ هناك ضحايا من الطرفين، وهذا ظاهر في المشهد الدمويّ والرائع في الحديقة، ذي الدلالات العميقة.
في ظلّ صراع الوجود هذا، لا بد من فائز. لكن، من؟ أهو مالك المال والقوّة، أم من لا يملك شيئًا، ولا يعبأ لا بروحه ولا بجسده؟ أم أنّه من مصلحة الطبقات الفقيرة أن تحافظ على وجود الطبقات الغنية؟ فبانتفاء تلك الطبقات، تتعقّد حياة الطفيليين، ولا يعود لها ما تعتاش به أو ترمّم عليه. ثم، ينتفي وجودها. فهل يقصد بونغ جون ـ هو تلك الطبقات المسحوقة، وإنْ تكن مذنبة ومُدانة سلوكيًا (طفيليون)، أم ماذا تحديدًا؟
أسئلة كثيرة وصعبة، لكن، لا إجابات شافية.