"سلفادور": جماليات فنية تستعيد تاريخاً كولومبياً

22 يونيو 2020
الذكرى الـ30 لمجزرة قصر العدل (غيلّيرمو ليغاريا/فرانس برس/Getty)
+ الخط -
اختار المخرج الكولومبي الشاب سيزار هيريتا كروز، في عمله الأول "سلفادور" (2020)، واقعة محاصَرة مجموعة مسلّحة لقصر العدل، جرت أواسط ثمانينيات القرن الماضي، في العاصمة بوغوتا، جاعلاً إياها مدخلاً إلى مُراجعة تاريخ معاصر لكولومبيا، ملتبس ومحاط بأكاذيب، ومليء بقصص متناقضة، تدعو إلى النفور والنسيان، مع أنّ تفاصيلها تُحيل إلى جوانب سياسية واجتماعية شديدة الحساسية، لا يستقيم فهم واقع البلد المضطرب (الذي لا يزال مضطرباً) من دون كشف العوامل الفاعلة فيها، وتحليلها.

هذا البحث في التاريخيّ ينشغل به عدد غير قليل من سينمائيي أميركا اللاتينية. فبمتابعة نتاجاتهم، يلاحظ تَشَكّل ملامح تيار خاص، أفرز أنساقاً متعدّدة من القراءات والمعالجات. ولعلّ "سلفادور" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ60 (11 ـ 16 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان كارتاخينا دي إندياس الدولي" (كولومبيا) ـ يؤشّر على إحدى تلك المحاولات، التي تقترح مراجعة حدث سياسي/ تاريخي "كبير"، عبر قصة رومانسية "صغيرة"، سلوك أبطالها وردود أفعالهم إزاء ما يجري حولهم، تشي بتكوين أخلاقي مُشوّه وفاعل في مآلات تاريخية لاحقة.

المشهد العام لبوغوتا في الثمانينيات الماضية مؤثَّث بمعمار خليطٍ من موروث بناء استعماري إسباني جميل، وآخر حديث مُسطّح، أغلبه لا روح فيه. يستأجر الخيّاط الخمسيني سلفادور (هكتور غارسيا) شقّة في عمارة سكنية، يتّخذها ورشة له. في شوارعها الضيقة، ينتشر الجيش، وأخبار مصادماته مع المسلّحين المعارضين للسلطة يسمعها الخيّاط من مذياعه، من دون أدنى اهتمام. رتابة حياته وضعف صلته بالآخرين ظاهران، لا يكسرهما سوى رعايته لكلبه، وزياراته المتباعدة لأخته وابن أخيه الشاب الجامعي.

يُدخِل السيناريو (كتابة المخرج) الحَذِر على الإيقاع الرتيب لحركته، تفاصيل صغيرة، تُضفي على المَشاهِد اليومية المتكرّرة حياة كئيبة، يحيطها التوتر، ويبدو الخيّاط كأنّه غير مُكترث بها. الكاميرا (تصوير خوانا غونزاليس) تساهم في توليد ذلك الانطباع. لقطاتها المقرّبة لوجهه الوسيم تنقل قدراً كبيراً من التعبير عن لااحتجاجيّته.

الاضطراب السياسي العام في البلد يصله عبر زبائنه. أحدهم، الذي يحرص على الظهور أنيقاً، يعمل في قصر العدل، القريب من ورشته. وآخَرُ، رجل أمن متعجرف، لا يتخلّى عن مسدسه حتى في أثناء أخذ الخيّاط قياسات بنطاله الجديد، ويتباهى بصِلاته مع كبار الضباط.

بوصول عاملة المصعد الجديدة إيزابيل (فابيانا مدينا)، تنعطف مسارات حياة الخيّاط. عملها في العمارة نفسها، ومقابلتها له مرّات، تفتح طريقاً لعلاقة رومانسية بينهما. حلاوة روحها وانفتاحها يسدّان نقصاً في داخله، فينجذب إلى مجاراتها، من دون الإفصاح عن مشاعره بقوّة. على برودته وانسحابه الداخلي، يشتغل سيزار هيريتا بروية، تُكسِب حركة فيلمه بُطئاً مؤثّراً، وتعطيه وقتاً لتشريح سلوك بطله بدقّة.

لا يريد "سلفادور"، أو "الخيّاط" (عنوان النسخة الإنكليزية)، الانغمار في تفاصيل الحدث الذي هزّ كولومبيا عام 1985، عندما حاصرت مجموعة ماركسية مسلّحة، تسمّى "19 إبريل"، قصر العدل وأعلنت أنّ قضاته رهائن لديها، احتجاجاً على عمليات التزوير التي أوصلت الرئيس بيليساريو بيتانكور إلى الحكم، ثم دخول الجيش على خطّ الأحداث، وارتكابه مجزرة مروّعة، حاولت السلطة الديكتاتورية تبرئته منها بأكاذيب مخجلة، منها تورّط زعيم عصابات تجارة المخدرات بابلو إسكوبار فيها، وتمويله المنظّمة مادياً. تُرك للحدث، الملتبسة تفاصيله، أنْ يأتي إلى الشاشة من خلال "الخيّاط"، ونذالة سلوكه وجبنه.

تنقسم القصّة الرومانسية في منتصفها إلى قسمين: الأول ينقل علاقة جانبية بين موظّف قصر العدل وإيزابيلا. صلة غامضة أثارت غَيرة سلفادور، وظلّ يبطّن انتقاماً من الرجل. الثاني على صلة باختفاء ابن أخيه، الطالب الجامعي الناشط في عمل سياسي معارض. بعد طول بحث، يُعثر على جثته مرميّة في مزبلة.

لا وجود للحبّ في زمن القتل، ولا أمل في ديمومة علاقة رومانسية في بلدٍ يحكمه الجنرالات والانقلابيون. موتها محتم. هذا ما أعلنته خاتمة العلاقة التراجيدية بين الخيّاط وإيزابيل، حين وشى سلفادور بموظّف المحكمة عند رجل المخابرات. أسقط قصّة ابن أخيه عليه، وادّعى بحصوله على معلومات تؤكّد صلته بتنظيمات مسلّحة. بعد أيام، تغيب عاملة المصعد عن العمل، ويكتشف أنّها معتقلة بتهمة المشاركة في حصار قصر العدل مع الموظّف، الذي أراد الانتقام منه غَيرةً، بكذبة ملفّقة صارت حقيقة، فخسر حبّه الوحيد، وسبّب موت آخرين.

على السلوك الأناني واللامبالي، يبني سيزار هيريتا كروز معمار نصّ قراءته للتاريخ السياسي لبلده، مُحيلاً قسطاً من مآلاته الحالية إلى بنية أخلاقية متجذّرة، مروية بمياه الخوف، ومغذّاة بسلوك فردي لا يُعير اهتماماً إلّا لذاته ونرجسيته. المعمار السردي مسنود بأداء تمثيلي رائع، وباشتغال سينمائي يجعل من "سلفادور" نصّاً متيناً ومجبولاً بجماليات مُبهرة، وببصيرة إخراجية لافتة للانتباه.
دلالات
المساهمون