27 أكتوبر 2024
"سنسحقهم حتى النطفة"
بين الواقع المعاش وكتاب "إدارة التوحّش" لملهم تنظيم القاعدة الوهمي أبو بكر ناجي، (اعتبره بعضهم دستور "داعش" الأساسي)، والذي يقول إن الجهاد ما هو إلا "شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان" (فقط...)، شعرةٌ شيباء تكاد لا تُلحظ بالعين المجرّدة.
ومن خلال متابعة الخطاب اليومي للناس، كتابةً وقولاً وممارسةً، في دول الحروب والنزاعات، يمكن أن تتم ترجمة هذا التوحّش يومياً من دون ربطٍ ديني أو مرجعية فقهية. فعلى الرغم من استناد الإرهاب الإسلاموي (وليس الإسلامي للمتصيدين في المياه الضحلة)، في كثير من تبريراته، على ما ورد في هذا الكتاب "المتوحّش"، مبتعدين سنوات ضوئية عن "الكتاب" الأساسي، وهو القرآن الكريم، إلا أن عدوى التوحّش سرت بسرعةٍ قياسيةٍ بين مختلف أفراد المجتمعات المتواجهة، كما في سورية مثلاً وأساساً.
إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، كان يحلو للسوريين أن يؤكّدوا دائماً على صدمتهم من مستوى العنف الذي كان يُمارس في الساحة اللبنانية بين مختلف المليشيات المسلحة. وكثيراً ما عَمِدَ المهتمون من السوريين إلى الغوص في تحليلات سوسيولوجية، وحتى نفسية، لشرح ماهية هذا العنف الذي تترجمه الأحداث، وربطه بالتكوين الجيو ـ سياسي، والتوزيع الطائفي في ميثاق 1943. وفي المحصّلة، كثيراً ما كانت "النخبة" السورية تستبعد إمكانية وقوع الأحداث نفسها في سورية (...)، بناءً على تمايزٍ "انتمائي"، وعلى مسارات الحياة العامة التي عرفتها سورية منذ وجودها في حدودها الحالية. كاد هذا التمايز عن "الشقيق" اللبناني أن يصل إلى حد التمييز الثقافوي والتنميط التلقائي، من دون أية مقاربة تحليلية أو محاولة تفسيرية.
الحديث عن لبنان واللبنانيين امتد إلى العراق، حيث تم التبحّر في توصيف وحشية نظامه
الصدّامي السابق، وحتى طاول الأمر الأنظمة التي سبقته، ليصل التحليل إلى وجود (وترسّخ) ثقافة عنفية "غريبة" عمن يُلاحظ ويتابع الأحداث من الأطراف الخارجية، وخصوصاً السورية منها. وتتالت السرديات التي تصف تفاصيل في التعذيب وفي القتل وفي التهجير، كاد المرء يعتقد أن من يصفها ناقداً ومحللاً هو من بيئةٍ ثقافيةٍ مختلفة، لا تمت لهذه الممارسات بصلة، ولن تكون لها في أي يوم استمراراً وتمدّداً. وكم تغنّى السوريون بسلميتهم، وبأن انقلاباتهم و"ثوراتهم" ما قبل 2011 لم ترق فيها الدماء أو أريقت "قليلاً"، وبالتأكيد، بأقل بكثير مما أُريق من دماء، وأُزهق من أرواح، في الدول الشقيقة لبنانياً وعراقياً.
لا يمكن تفسير هذه الظاهرة الترفّعية أو التمايزية إلا من خلال التوقف عند ما يسمى "التفكير بالتمني"، والذي غالباً لا يتحقق، ونادراً ما يتبناه العارفون بالأمور، أو المحللون قليلو الادّعاء، وهم قلّة قليلة للأسف. كما يمكن الظن أن هذا الترفّع عن العنف والتمايز الاختياري الذي تبّناه سوريون كثيرون، وخصوصاً من ينتمون منهم إلى "النخبة"، يعود أيضاً إلى جهلٍ بمسارات التاريخ، وبالمعرفة المعمّقة في علم الأنسنة الذي يُحيل كل ما سبق من تمايزاتٍ بين الشعوب والثقافات، ومن استثناءاتٍ من العنف والتوحّش، إلى مجرّد الجهل الحقيقي، أو الارتياح بالتلطي وراءه.
هل يمكن لمن يراقب عن كثب شعوب ألمانيا واليابان أن يشكّ وهلةً بأن التوحش كان ديدن جزء مهم من نخبها، وأن ممارسته كانت أيضاً "تحلو" لبعضٍ من عامتّها، في مرحلة تاريخية معينة ؟ هل لمن يتغنّى بسلمية المجموعات البوذية أن يُصدّق مدى توحش منتمين إليها بالتعامل مع الأقليات المسلمة في بورما مثلاً؟ وهل لمن كان يُصارع الطواحين بتقديم الشخصية السورية على أنها شديدة السلمية، والأكثر بعداً عن ثقافة العنف، أن يُصدّق أو يستوعب أو يقبل بأنه انبثق من هذه الشخصية عنفٌ لا يُقارعه عنف؟ وموتٌ لا يُماثله موت؟ وحقدٌ لا يضاهيه حقد؟
"تم الدعس" على كل الأوهام، من خلال استعراض الأحداث التي رافقت مسار الثورة السورية، قبل أن تنتقل إلى المواجهات المسلحة والحرب المفتوحة. ومن المؤكد أن الدخول في توزيع المسؤوليات، وتحديد المسؤول الأول، وتسمية البادئ، لم يعد يجدي، فمن لا يرغب في الاعتراف بالحقيقة لن يقتنع بها بعد ست سنوات ونيف من انفجار هذه الحقيقة في وجهه، وفي وجه أقرانه.
كتب ميشيل سورا وصيته السياسية في "الدولة المتوحشة"، الصادر حديثاً باللغة العربية بعد أن
صدر في ثمانينات القرن الماضي بالفرنسية، وأودى بصاحبه إلى الموت. وفي استعراض هذا الكتاب، كما في قراءة أبحاث رصينةٍ عديدة تعاقبت لغير السوريين، خصوصاً في مرحلة طويلة، لوصف التركيبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للوطن السوري، يمكن التعرّف على أن التوحّش والوحشية ظاهرتان انتابتا المجتمع السوري في أكثر من مرحلة. ومن ينظر إلى سرديات سجناء تدمر وصيدنايا التي لا تتوقف سيتعرّف على مشاهد لا يمكن لعتاة مخرجي أفلام الرعب أن يجسّدوها.
كيف ستكون عودة السوريين إلى "الطبيعة" الإنسانية، بعد أن أصيب أكثر من 76% من أطفالهم بالانعكاسات النفسية للحرب، كما لاحظت دراسات جدية؟ وهذا الغيضُ من الفيض يطرح تحدياً مهما أمام مشاريع إعادة الإعمار التي ستلي توقف الحرب، عاجلاً أم آجلاً. فما أسهل الترميم والبناء المادي، وما أصعب ترميم النفوس والممارسات والعلاقات البشرية.
خلال سجال "فيسبوكي" بشأن المواجهات المتجدّدة في الأيام الماضية، كتب أحدهم: "سنسحقهم حتى النطفة" (...). هل من توحّشٍ أجزل تعبيراً من هذا؟
ومن خلال متابعة الخطاب اليومي للناس، كتابةً وقولاً وممارسةً، في دول الحروب والنزاعات، يمكن أن تتم ترجمة هذا التوحّش يومياً من دون ربطٍ ديني أو مرجعية فقهية. فعلى الرغم من استناد الإرهاب الإسلاموي (وليس الإسلامي للمتصيدين في المياه الضحلة)، في كثير من تبريراته، على ما ورد في هذا الكتاب "المتوحّش"، مبتعدين سنوات ضوئية عن "الكتاب" الأساسي، وهو القرآن الكريم، إلا أن عدوى التوحّش سرت بسرعةٍ قياسيةٍ بين مختلف أفراد المجتمعات المتواجهة، كما في سورية مثلاً وأساساً.
إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، كان يحلو للسوريين أن يؤكّدوا دائماً على صدمتهم من مستوى العنف الذي كان يُمارس في الساحة اللبنانية بين مختلف المليشيات المسلحة. وكثيراً ما عَمِدَ المهتمون من السوريين إلى الغوص في تحليلات سوسيولوجية، وحتى نفسية، لشرح ماهية هذا العنف الذي تترجمه الأحداث، وربطه بالتكوين الجيو ـ سياسي، والتوزيع الطائفي في ميثاق 1943. وفي المحصّلة، كثيراً ما كانت "النخبة" السورية تستبعد إمكانية وقوع الأحداث نفسها في سورية (...)، بناءً على تمايزٍ "انتمائي"، وعلى مسارات الحياة العامة التي عرفتها سورية منذ وجودها في حدودها الحالية. كاد هذا التمايز عن "الشقيق" اللبناني أن يصل إلى حد التمييز الثقافوي والتنميط التلقائي، من دون أية مقاربة تحليلية أو محاولة تفسيرية.
الحديث عن لبنان واللبنانيين امتد إلى العراق، حيث تم التبحّر في توصيف وحشية نظامه
لا يمكن تفسير هذه الظاهرة الترفّعية أو التمايزية إلا من خلال التوقف عند ما يسمى "التفكير بالتمني"، والذي غالباً لا يتحقق، ونادراً ما يتبناه العارفون بالأمور، أو المحللون قليلو الادّعاء، وهم قلّة قليلة للأسف. كما يمكن الظن أن هذا الترفّع عن العنف والتمايز الاختياري الذي تبّناه سوريون كثيرون، وخصوصاً من ينتمون منهم إلى "النخبة"، يعود أيضاً إلى جهلٍ بمسارات التاريخ، وبالمعرفة المعمّقة في علم الأنسنة الذي يُحيل كل ما سبق من تمايزاتٍ بين الشعوب والثقافات، ومن استثناءاتٍ من العنف والتوحّش، إلى مجرّد الجهل الحقيقي، أو الارتياح بالتلطي وراءه.
هل يمكن لمن يراقب عن كثب شعوب ألمانيا واليابان أن يشكّ وهلةً بأن التوحش كان ديدن جزء مهم من نخبها، وأن ممارسته كانت أيضاً "تحلو" لبعضٍ من عامتّها، في مرحلة تاريخية معينة ؟ هل لمن يتغنّى بسلمية المجموعات البوذية أن يُصدّق مدى توحش منتمين إليها بالتعامل مع الأقليات المسلمة في بورما مثلاً؟ وهل لمن كان يُصارع الطواحين بتقديم الشخصية السورية على أنها شديدة السلمية، والأكثر بعداً عن ثقافة العنف، أن يُصدّق أو يستوعب أو يقبل بأنه انبثق من هذه الشخصية عنفٌ لا يُقارعه عنف؟ وموتٌ لا يُماثله موت؟ وحقدٌ لا يضاهيه حقد؟
"تم الدعس" على كل الأوهام، من خلال استعراض الأحداث التي رافقت مسار الثورة السورية، قبل أن تنتقل إلى المواجهات المسلحة والحرب المفتوحة. ومن المؤكد أن الدخول في توزيع المسؤوليات، وتحديد المسؤول الأول، وتسمية البادئ، لم يعد يجدي، فمن لا يرغب في الاعتراف بالحقيقة لن يقتنع بها بعد ست سنوات ونيف من انفجار هذه الحقيقة في وجهه، وفي وجه أقرانه.
كتب ميشيل سورا وصيته السياسية في "الدولة المتوحشة"، الصادر حديثاً باللغة العربية بعد أن
كيف ستكون عودة السوريين إلى "الطبيعة" الإنسانية، بعد أن أصيب أكثر من 76% من أطفالهم بالانعكاسات النفسية للحرب، كما لاحظت دراسات جدية؟ وهذا الغيضُ من الفيض يطرح تحدياً مهما أمام مشاريع إعادة الإعمار التي ستلي توقف الحرب، عاجلاً أم آجلاً. فما أسهل الترميم والبناء المادي، وما أصعب ترميم النفوس والممارسات والعلاقات البشرية.
خلال سجال "فيسبوكي" بشأن المواجهات المتجدّدة في الأيام الماضية، كتب أحدهم: "سنسحقهم حتى النطفة" (...). هل من توحّشٍ أجزل تعبيراً من هذا؟