ربما يكون في عبارة "هناك لحظات وتواريخ وتشابهات من الصعب تجاهلها، فنحن بعيدون جداً لكننا متشابهون جداً"، مفتتح مناسب لتناول تجربة الفنان الفلسطيني قيس عسالي والفنان المكسيكي خوسيه لويس بينافيديس التي نشرت في فيديو تحت عنوان "سيقان جميلة" (الجملة ترد في الفيديو)، على صفحة "دار نصري جاسر للفن والبحث" في بيت لحم قبل أيام، وتلته ندوة جمعت الفنانين، وشارك فيها الحقوقي الجنوب أفريقي المناهض للفصل العنصري ألبي ساكس والقيّمة الفنية ريم فضة من فلسطين، وحضرها فنانون من سياقات ومجالات مختلفة.
يتساءل الفنانان في الفيديو: "من نحن كشعوب؟ هل نحن الأرض التي فقدناها؟ هل نحن ذكرى حرب؟ هل نحن أرض معركة مستمرة؟ المدينة الميتة؟ عاصمة ميتة؟ مدينة أشباح؟ نصب تذكاري أم تمثال؟"، وتنطلق حكاية الرحلة الفلسطينية المكسيكية هذه من قصة ساق الجنرال المكسيكي سانتا آنا (1794-1876)، التي أصيبت وجرى بترها في إحدى المعارك، فأمر بدفن ساقه في جنازة عسكرية مهيبة، وفي عام 1844، وبعد هروبه إثر الاحتجاجات عليه بسبب رفعه الضرائب، استخرجت الحشود ساقه المدفونة وسحلتها في الشوارع حتى لم يبق منها شيء. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، إذ أخذت ساقه الخشبية في معركة أخرى مع الولايات المتحدة الأميركية عام 1874، ثم عرضت في المتحف العسكري لولاية إلينوي (ولم تعد تعرض للجمهور اليوم)، ولاحقاً أخذت ساقه الخشبية الأخرى في معركة ثانية ويقال إن الجنود الأميركيين استخدموها كمضرب بيسبول، ثم علقت في بيت أحد جنرالات الحرب.
المكسيكي للفلسطيني: حاضرنا هو مستقبلكم، تعيشون الآن ماضينا
ولكن لماذا يحاول الفنانان في الفيديو إقامة نصب لساق سانتا أنا في فلسطين؟ نسمع بينافيديس يصف الحرب التي انتهت بهزيمة المكسيك أمام قوات إلينوي في 1848 بأنها "نكبتنا" (نكبة المكسيكيين)، وفجأة نقرأ حواراً متخيلاً في الفيديو بين "ختيار فلسطيني وختيار مكسيكي"، ينتهي بعبارة على لسان الأخير "حاضرنا هو مستقبلكم، تعيشون الآن ماضينا" أليس الفرق بين النكبتين مئة عام (1848-1948).
يطرح فيديو عسالي وبينافيديس مسألة التضامن ليس فقط بين الشعوب، بل وبشكل أساسي بين فنانين، كل واحد منهما من جغرافيا مختلفة لكن التشابهات التاريخية وربما المستقبلية حتّمت عليهما الوقوف عند نقطة مشتركة؛ والمفارقة أن هذه النقطة تمثلت في فشل الوصول إلى رؤية ساق خشبية لجنرال بائس خسر الحرب، وأصبحت هذه الساق أمثولة في الهزيمة.
الندوة التي تلت الفيديو كانت بعنوان "التعاون والتضامن"، ولم تقف عند عمل "سيقان جميلة" بل ذهبت لمناقشة الفصل العنصري في أفريقيا والتضامن مع المجتمع الكويري في كل مكان، والحديث عن الاحتجاجات ضد العنصرية في أميركا اليوم.
الحقوقي المناهض للفصل العنصري في جنوب أفريقيا ألبي ساكس، قدّم مداخلة خلال السيمينار ألقى فيها الضوء على الروابط بين النضال ضد عنف الدولة والقمع عبر التاريخ وحول العالم، وحول الإرث المشترك بين صراعات التحرر، من حركات التحرر السوداء إلى مناهضة الأبارتهايد وصولاً إلى فلسطين.
وقف ساكس أيضاً عند مثال من الباليه، متناولاً تجربة الكريوغرافية الجنوب أفريقية دادا ماسيلو في تقديم نسختها من "بحيرة البجع"، لتكسر كل القوالب المتعلقة باللون والقصة الأوروبية البيضاء والجندر وتقسيماته والجسد المذكر والمؤنث، وحتى ما يعرفه الناس عن فن الباليه نفسه.
مثل هذا التضامن الفني يرسم تاريخاً كثيراً ما يتم تجاهله، أو حتى لا يجري الانتباه إليه، ويضع على الطاولة مناقشات لتواريخ مشتركة وربما لم تكن مرئية من قبل لكل طرف فيها، لا سيما حول العنصرية والهيمنة، وتدفعنا إلى التساؤل عن حدود وعينا وفهمنا الحقيقي للثقافة والحضارة وتاريخنا الصغير وموضعه من التاريخ الإنساني الأبعد.